اراء و أفكـار

شطرنج داعشي في العراق

عثمان ميرغني
الطريقة التي سقطت بها الرمادي، أكبر مدن محافظة الأنبار العراقية ومركزها الإداري، في أيدي «داعش» لن تكون المرة الأولى التي تثير فيها عملياته الحيرة وتجعل الأسئلة تتلاحق حول هذا التنظيم العجيب، والطريقة التي يتحرك بها. فدولة «داعش» الإسلامية المزعومة تتمدد داخل العراق وسوريا في مساحة على حدود ثلاث دول هي الأردن والسعودية وتركيا، وتقاتل على عدة جبهات حتى يخال للمرء أننا أمام دولة عظمى، أو جيش يضاهي جيش الصين في تعداده، أو جيش أميركا في عتاده. قيل في وقت غير بعيد إن تعداد مقاتلي التنظيم لا يتجاوز 20 إلى 30 ألفا، فكيف لتنظيم بهذا العدد «المتواضع» من المقاتلين، أن يتمدد بهذا الشكل ويتحكم في كل هذه الأراضي، رغم الضربات الجوية المستمرة منذ أكثر من عام التي تشنها ضده طائرات التحالف الدولي بقيادة أميركا؟
في كثير من المعارك كان التنظيم المحير يقاتل بما لا يتجاوز بضعة آلاف من المقاتلين، فيدخل مدنا يفترض أنها حصينة، وتتراجع أمامه قوات عسكرية «محترفة» مدججة بأحدث الأسلحة. في حالة الرمادي على سبيل المثال كان سياسيون عراقيون يحذرون منذ فترة من هجوم متوقع لـ«داعش» على المدينة، وقالوا إن «داعش» نقل أخيرا نحو 9 آلاف من مقاتليه من سوريا إلى العراق لتعزيز عملياته في الأنبار والاستيلاء على عاصمتها. التنظيم ذاته لم يخفِ نيته في مهاجمة الرمادي، إذ أعلن على لسان أحد قادته في خطبة بثت بشكل دعائي على الإنترنت، نقل ساحة المواجهة إلى العراق معتبرا أن العراق لا سوريا هو الساحة الرئيسية وأنه أهم ألف مرة لمخططاتهم.
نقل «داعش» آلافا من مقاتليه من سوريا إلى العراق استعدادا لاحتلال الرمادي أثار تساؤلات حول سهولة تحرك التنظيم عبر الحدود رغم الطلعات الجوية المكثفة لطائرات التحالف، وعمليات الرصد والاستخبارات، وجعل أطرافا عراقية تتحدث عن طبخة في سوريا على حساب العراق وعن خلط جديد للأوراق مع نقل «داعش» معركته الأساسية إلى الأنبار تاركا معظم الساحة السورية لمقاتلي جيش الفتح وجبهة النصرة.
سقوط الرمادي كان يمكن تفاديه لو كان هناك تفاهم بين الحكومة المركزية وقادة العشائر السنية في الأنبار الذين ظلوا يطالبون بتسليحهم حتى يتمكنوا من مواجهة «داعش» وصده أو طرده من المحافظة مثلما فعلوا مع «القاعدة» قبل ثماني سنوات تقريبا وأخرجوها من أراضيهم بعدما فشلت أو تعثرت جهود القوات الأميركية والعراقية رغم المعارك الضارية ومنها معارك الفلوجة. لكن حكومة حيدر العبادي لم تستجب للنداءات ورفضت أيضا تحت ضغط الكتل الشيعية قرار الكونغرس بتوزيع سلاح أميركي مباشرة على الأكراد والعرب السنة لتمكينهم من مواجهة «داعش». قيل الكثير في تفسير أسباب موقف حكومة العبادي، مثل رفض مبدأ التوزيع الطائفي للسلاح، ومخاوف التقسيم، أو أن السلاح يجب أن يكون في يد الدولة فقط. مثل هذا الكلام يكون صحيحا ومقبولاً لو كان الكيل يتم بمكيال واحد ومعيار ثابت. لكن الواقع أن الحكومة وبعض أطرافها يقدمون هذه التبريرات بينما يتعاونون مع الميليشيات الشيعية التي تعمل تحت اسم «الحشد الشعبي»، ويتدفق عليها السلاح والدعم والخبرات من الداخل أو من إيران.
هذا المعيار المزدوج يصب المزيد من الزيت على نار الطائفية التي تأكل في الجسد العراقي، ويزيد في استعداء السنة الذين يشكون من التهميش، وربما يدفع المزيد منهم لغض النظر عن تقدم «داعش» أو حتى للتحالف معه. فالمنطق الغالب في العراق اليوم هو منطق المماحكات السياسية، والمخاوف والشكوك الطائفية، والتحركات المثيرة للريبة في وقت أصبح الحديث فيه عن التقسيم أمرا عاديا.
في ظل هذه الصورة الضبابية لم يكن غريبا أن تخرج أصوات عراقية تتحدث عن مؤامرات ومخططات وراء سقوط الرمادي. مؤيدو الحكومة الذين كانوا يبشرون الناس بأن المبادرة باتت في أيدي القوات النظامية وميليشيات «الحشد الشعبي» إثر تحرير تكريت، برروا لسقوط الرمادي بالقول إن عشائر سنية سهلت لـ«داعش» دخول المدينة ردا على استنفار العبادي لميليشيات «الحشد الشعبي» استعدادا لمعركة الأنبار. في الجانب المقابل هناك من يرى أن «داعش» أصبح غطاء ومبررا للتغلغل الإيراني في العراق، وهو تغلغل يحدث بتفاهم وتفهم من أميركا وبغطاء جوي منها تحت لافتة الحرب ضد الإرهاب. آخرون اعتبروا سقوط الرمادي خطوة أخرى في مخطط تقسيم العراق لأنه يعمق الفصل الطائفي ويخدم المنادين بما يسمى بحل الدول الثلاث الذين يرون أن ركائز الدولة العراقية الموحدة انهارت وأن التقسيم أصبح أمرا واقعا، لا سيما أن الأكراد ربما يوظفون الظروف الراهنة لإجراء استفتائهم وإعلان دولتهم المستقلة.
سقوط الرمادي يبقى محيرا مثل التمدد المستمر لـ«داعش»، لكن المؤكد أن العراق يسير أو يدفع بخطى حثيثة في سكة التمزق والتقسيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً