اراء و أفكـار

طقوس غوغائية تستبيح بغداد في الأعظمية

د. مثنى عبدالله
إذا لم نحرقها اليوم سنحرقها غداً. هذا هو ثأر الشهداء.. عاشت أيدك إحرقهم. تعيش المقاومة الإسلامية. هذا غيضٌ من فيض من الشعارات التي أطلقها الغوغاء، في الليلة التي اقتحموا فيها أعظمية بغداد الأسبوع الماضي.
لم نزد عليها حرفاً بل تجنبنا ذكر الكثير من الألفاظ الطائفية، كي لا تشملنا الاتهامات الجاهزة. إنه نقل حرفي لما سمعه وشاهده العالم كله، من خلال الفضائيات العراقية والعربية. كانت أدواتهم الجُرمية حاضرة جاهزة في أيديهم، قنابل مولوتوف، غالونات بنزين، وسلالم كي تسهّل لهم الصعود على أسوار هيئة الاستثمار التابعة للوقف السني، وبيوت المواطنين الآمنين في تلك الليلة لحرقها، ثم يصر البعض منهم على التقاط صور، وهم يعتلون البنايات والأسوار رافعين شارة النصر بأيديهم. نصرُ مَن على مَن؟ وهل يُعقل أن يتحول طقس ديني في حي مجاور إلى طقس جرمي في حي آخر، لمجرد أن هذا الحي غالبية الساكنين فيه من السُنة، والآخر غالبية الساكنين فيه من الشيعة؟ وإن هذا المكان فيه مرقد رجل علم وفقه يعتقد البعض أنه مُلك صرف لهذه الطائفة، وذاك المكان فيه مرقد صحابي يعتقد الآخرون أنه مُلك صرف لتلك الطائفة؟
ولو أمعنا النظر في هؤلاء الغوغاء لوجدنا بأنهم شباب مازالوا في مقتبل العشرينات من العمر، لكن الأفعال التي قاموا بها، والشعارات التي أطلقوها، كانت تنضح طائفية وحقدا وضغينة على الآخر، الذي هو من الوطن والدين والقومية نفسها. مُحال أن تكون كل هذه الصفات قد ولدت معهم وكانت جيناتهم تصطبغ بها، لأن هذا مخالف للمنطق والعلم، لكنها بُذرت ونمت وكبُرت حتى صارت سلوكا يفخرون به بفعل فاعل وليس من فراغ. كانت أحدى شعاراتهم وهم يحرقون بيوت المواطنين الآمنين في تلك الليلة، أن هذا هو ثأر الشهداء، أي أن هؤلاء الغوغاء قد تلقوا تثقيفاَ ذا حقد عالي النبرة، بأن مواطني هذا الحي وأحياء أخرى في بغداد، ومحافظات أخرى من العراق، هم من يقتلون أبناءكم وأخوانكم في كل يوم، وأن الثأر منهم جائز شرعاَ وقانوناَ وعُرفاَ، فاقتلوهم حيث ثقفتموهم. ولو عدنا إلى كل تاريخ العراق، ولو بحثنا حتى في فتراته المظلمة، لا نجد مطلقاَ مثل هذه العملية التثقيفية الجرمية، التي تُحرّض الآخر على قتل وانتهاك حُرمات مواطن آخر من البلد والدين والقومية نفسها ، لأنه لو كانت هذه العملية سياقا فعليا جاريا منذ زمن قديم، لما كان العراق موجودا حتى هذا اليوم، ولما كان العراقيون يحملون صفتهم العراقية حتى اللحظة، ولما استطاع العراق أن يصمد في الحرب العراقية الإيرانية ثماني سنوات، ولما تصاهر العراقيون في ما بينهم، ولما وجدنا قبائل وعشائر وعوائل ثنائية الطائفة. لكن عندما تُعيد السلطات الحاكمة تشكيل مؤسسات الدولة بتركيبة طائفية، وعندما تتحول المؤسسات الدينية إلى مراكز أبحاث، تفتش في بطون التاريخ الحقيقي والمزعوم عن الاختلاف المذهبي، وعندما يقسّم الزعيم السياسي، الذي يتربع في قمة هرم السلطة، المجتمع إلى معسكر الحسين ومعسكر معاوية، ويطلق البعض شعار يا لثارات الحسين، تنفجر الجغرافية داخل الوطن الواحد، وتنشأ حروب أهلية كبيرة وصغيرة، تكون ساحاتها المحافظات والمدن والاحياء والحارات.
لذلك لا غرابة أن نجد غوغاء مازالوا في مقتبل العمر في عصر التطور والتواصل العالمي المفتوح، لأن مؤسسات الصهر الوطني في المجتمع العراقي قد استعيض عنها بمؤسسات ومراكز أبحاث طائفية، تسلط يوميا كماً هائلاً من المفاهيم الطائفية على الشباب، وتدفعهم للتفكير باتجاه مغاير، بعيداً عن الخيمة الوطنية، كما أن هذه الجهات حريصة كل الحرص على إضفاء القدسيّة الدينية على ممارساتها، وتشكيل نماذجها المليشياوية المسلحة الخاصة في المجتمع، التي ترفع أعلامها وراياتها وتنشد أناشيدها، فتزاحم أجهزة الدولة التي هي بالأساس ضعيفة، وليس لديها منهج وعقيدة وطنية تعطيها القوة على المنافسة وتمنحها إمكانية التقدم. كما أن الظاهرة الغريبة في هذا الحدث، أن الغوغاء ومن يقف خلفهم، لم يفكروا لحظة واحدة بأن سكنة هذا الحي قد هبّوا قبل سنوات قريبة لنجدتهم في مناسبة مماثلة، عندما تدافع الزوار وسقطوا في نهر دجلة، حتى ذهب أحد الشباب غريقا وهو ينقذ المئات من الغرق. حتى في الحادث الاخير كانت بعض العوائل تستضيف الزائرين وتقدم لهم الطعام والتسهيلات الأخرى، مما يؤكد على أن هذا الاتجاه بات لا يعترف بكل القيم والاعراف الدينية والدنيوية والاخوة والمواطنة، وهو تيار منظّم وقوي تنسحب من أمامه حتى القوة العسكرية الحكومية، حيث أكد محافظ بغداد على أحدى القنوات الفضائية، على أن اللواء 44 المكلف بحماية المنطقة، انسحب عندما هاجم الغوغاء الدور والمؤسسات، وأن آمر اللواء أغلق هاتفه بعد كثرة استغاثات المواطنين. وإذا ما نظرنا إلى ردود الفعل الحكومية من جميع الأطراف فانها كانت تشي بأن العراق يعيش في مرحلة اللادولة، حيث أن المسؤولين توافدوا على الحي بصفة عشائرية، الهدف منها تطييب الخواطر، وكأن الحدث خلاف عشائري يتطلب حضور أهل الحل والعقد لفض النزاع، وليس تهديدا فعليا للأمن والسلم الأهلي، الذي يقتضي سرعة التحقيق والعقاب الصارم. كانت تصريحاتهم المشتركة تقوم على ضرورة التعويض المادي، الذي نعلم كيف سيكون مرتعا للمساومات والابتزاز والرشوة أسوة بغيره، بينما لم يتحدث أي منهم عن ضرورة تعويض ثقافة الكراهية والانتقام والطائفية، بالثقافة الوطنية الجامعة، والتخلي الفعلي عن النفخ في أبواق الحقد والضغينة والاتهامات الجاهزة ضد الآخرين. وحده رئيس البرلمان العراقي العتيد، خرج بسرعة ليوجه رسالة إلى الشعب العراقي، قائلا بأن من قاموا بهذا الفعل إنما يتحدون الدولة التي تمسك بسيف القانون، بينما يعلم علم اليقين بأنه هو نفسه، وكل أعوانه وشركائه الاخرين في السلطة، ليس بأيديهم سوى غمد ذلك السيف الذي يتحدث عنه، وأن الجماعات الغوغائية والمليشياوية، هم وحدهم من يمسكون السيف ويضعونه على رقاب المواطنين، لأن رئيس البرلمان هو نفسه قيادي في حزب طائفي، يعمل على أساس أن الوطن قائم على أسس طائفـــــية وليست وطنية. أما رئيس الوزراء الذي راهن عليه الكثيرون، فقد تحدث بواقع غير موجود أصلا، لأنه هو الآخر قيادي في حزب طائفي.
إن جوهر السياسة الأخلاقية يتلخص في تيسيير تعايش الناس في المجتمع، والحيلولة دون إبادة بعضهم البعض الآخر، لكن من يتصدرون المشهد العراقي اليوم جوهرهم طائفي، يعتمد الحروب الطائفية وسيلة شريفة من وسائل الوصول إلى السلطة، لذلك ستستمر الانفجارات في الجغرافية الداخلية العراقية. إن العراق بحاجة إلى سلطة الهيبة، وسلطة المعنى الوطني، وسلطة الفكرة السياسية الاخلاقية الشريفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً