اراء و أفكـار

نازحو الأنبار

رباح ال جعفر

وأنت تَقرأ في قصص العرب وأيامهم تستوقفك دائماً حكايات جميلة من زمن المروءة والنبل والشهامة. كان العربي يعدلك إذا ملت، ويدافع عن قلبك إذا أحببت، ويطعمك إذا جعت، ويؤمنك من خوف، ويرثيك إذا مت، ويبكي معك إذا بكيت على طلل.
أموت حنيناً إلى زمن كان الناس إذا شبّت النار في بيت، أو في بيدر، هبّوا كلهم رجل إطفاء حريق وأطفأوا النار، لا يتقاضى أحد منهم أجراً على عمل، إلا المودة في القربى.
وفي هذه الأيام لا أطلب منك أكثر من أن تسمح لي بالمرور وبالعبور من بلدة إلى بلدة في ما تبقّى لنا من وطن اسمه العراق. ولا أطالبك أكثر من كسرة كرامة في بلد لا زال يبحث عن كرامة. لا أريد منك ادعاء الكرم الكاذب والعطاء الخرافي وانتحال شخصية حاتم الطائي. أعرف أن زمن الفروسية انتهى.
العراقيون كلهم طيّبون إلا الاستثناء. أذكر عندما نزحت عائلات من بغداد وتركت منازلها هرباً من جحيم حرب 1991 وحرب 2003 فتح الأنباريون لهم قلوبهم قبل أبوابهم، فناموا في فراشهم، وأكلوا من قدورهم، وقاسموهم أرغفة الخبز، ويومها سمعت من يقول: إن أهل الأنبار بالغوا في كرمهم لنا حدّ الإسراف.
ولأن الدهر يومان، والدنيا مثل دواليب الهواء صعود وهبوط ولف ودوران، فقد أجبرت المعارك مئات العائلات من أهل الأنبار أن تترك منازلها تحت وطأة الخوف وإيثار السلامة، وأن تبحث لها عن موطئ قدم آمن في بغداد.
جاءوا فوجدوا غير ما كانوا يتوقعون. الإجراءات الحكومية كانت قاسية وصارمة بأكثر مما ينبغي، والأحاديث والتصريحات التي خرجت عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي جاءت مستفزة للمشاعر، مثيرة للكراهية والفتنة حد التجريح والشماتة والاتهام، وهناك أطراف سياسية وغير سياسية ضغطت لمنع دخول هؤلاء الفارين من الجحيم كما أخبرنا رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي في حديثه أمام مجلس النواب. أكثر من هذا وجدنا جهات سياسية حمّلتهم، مع الأسف، المسؤولية عن الخروقات الأمنية في الأيام الأخيرة، وكأن بغداد قبل مجيئهم لم تكن تعرف معنى الانفجار والموت والدمار.
نازحو الأنبار في حيرة من أمرهم، يواجهون خياراتهم الانتحارية على أحرّ من الجمر، ولا يعرفون أين المستقر ولا أين المفر؟!
إنهم يريدون العودة إلى بيوتهم ما استطاعوا سبيلاً، ويفضلون الموت هناك بكرامتهم، وكثير منهم لا يستطيع العودة بعد أن فقد كل شيء. فلا المكارم تأتي على قدر الكرام، ولا العزائم تأتي على قدر أهلها، ولا رجال الحيّ رجالها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً