اراء و أفكـار

لا شيعة ولا سنة

عبد الحليم قنديل
أكبر محنة حلت بالإسلام هي حروب السنة والشيعة، وتحويل الإسلام إلى مذاهب وفرق بالية، وانتحال وصف «الفرقة الناجية» للفرق البائسة.
وأكبر محنة حلت بالعرب هي إغفال كونهم عربا، ينتسبون إلى قومية من طراز فريد، قومية رسالية، لا تعرف معنى الأصل العرقي، ولا النسب الدموي، ولا التفرقة العنصرية المنكودة، فالعرب ليسوا عنصرا ولا عرقا، بل هم تكوين ثقافي وقومي خاص، وجدت بذوره قبل الإسلام، وبتلاقح الهجرات السكانية والتفاعل اللغوي والثقافي، ثم جاء الإسلام الخاتم، وصهر الكل في سبيكة متجانسة، جعلت التعريب راية المنطقة، التي نسميها الآن بالوطن العربي، وخلقت الأمة العربية بصورتها المتكاملة، وبدون نظر إلى أقوام وطوائف فرعية، ظل بعضها على غير دين الإسلام، وإن تحول الإسلام إلى ثقافة امتزجت بالعروبة، وصارت ثقافة الكل من المسلمين والمسيحيين العرب، وهو ما عبر عنه ببلاغة مكرم عبيد أشهر سياسي مسيحي مصري. كان عبيد يصف نفسه ببساطة جريان الماء في الأنهار العذبة، كان يصف نفسه بالقول «أنا مسيحي دينا. مسلم وطنا»، وقد لا نغفل هنا أدوارا بارزة لمسيحيين عرب في الدفاع عن وتجديد التراث الإسلامي، وفي نشر فكرة القومية العربية الحديثة، وفي السعي لخلافة ووحدة عربية بعد انهيار الإمبراطورية التركية المريضة، ومن أمثال جورجي زيدان وقسطنطين زريق وميشيل عفلق، الذين تداخلت أدوارهم في المسعى نفسه مع أدوار لكبار المفكرين المسلمين العرب. ومن أمثال محمد عبده ورشيد رضا وساطع الحصري وعبد الرحمن الكواكبي وعبد الحميد بن باديس وفتحي رضوان وعبد الرحمن عزام، أول أمين عام للجامعة العربية، فقد امتزج معنى الإسلام الثقافي بمعنى العروبة الجديدة، ولم ينظر أبدا إلى عرق أحدهم، ولا إلى طائفته، بل أن رجلا من أصول غير عربية كجمال الدين الأفغاني، كان ينظر إليه كمجدد إسلامي وداعية لوحدة عربية ضد الاستعمار، في ظل إدراك متنام لحقائق العصر وتاريخ تطور الأمم، فالإسلام المشفوع بالتعريب خاصية تميز الأمة العربية، وخارجها امتد الإسلام، وشمل أمما قومية أخرى عديدة، وبدون أن يعربها، فمفهوم الأمة الإسلامية ـ بالمعنى الديني ـ يشمل أمما متعددة بالمعنى القومي، وبين «شعوب الأمة العربية تمكن ـ بل تجب ـ الوحدة»، كما كان يقول عبد الحميد بن باديس تلميذ الأفغاني، في حين يجب السعي إلى تضامن فعال بين أمم العالم الإسلامي، وفي تجديد معاصر لمعنى الكيان الجامع للمسلمين، وفي صورة «برلمان إسلامي» دعا إليه الكواكبي في كتابه «أم القرى»، وجدد الدعوة إليه جمال عبد الناصر رمز القومية العربية في كتابه المبكر «فلسفة الثورة».
كان فقه التوحيد ملازما لتبلور ونهوض معنى الأمة العربية، وتقريب المذاهب الإسلامية، وفتوى الأزهر السني بجواز التعبد على المذهب الشيعي الجعفري، والنهوض العربي العلمي والصناعي في مصر بالذات، وهو ما دارت معاركه الفكرية والتطبيقية تباعا إلى أواسط السبعينيات من القرن العشرين، بعدها حدث الانهيار العظيم، وذهب فقه التوحيد، وحل زمان فقه التفكيك، وجرى اغتيال معنى الوحدة العربية بسيف خشبي، حمل زورا اسم الوحدة الإسلامية، والسعء لخلافة دينية، وتضخم دور ما سموه بالحركات الإسلامية، التي أغرت بشعاراتها البدائية مجتمعات عربية محبطة، خرجت بعد حرب أكتوبر 1973 من نزال التاريخ الجاري، وخرجت من سباق العصر العلمي والصناعي والتكنولوجي، وسادتها مشاعر بؤس ويأس، وتضخم اليمين الديني المتخلف متغذيا على مشاعر البؤس واليأس، فقد خاطب بؤس المجتمعات كجمعية خيرية، وخاطب يأسها كجمعية دينية، وبالاستعانة بفوائض بترو ـ دولارية، تدفقت كالسيول، ومعها لحى متدلية، نشرت تفكيرا صحراويا عدميا، يفرق مجتمعاتنا إلى طوائف، ويستبعد غير المسلمين من كفالة حق المواطنة، ومن الشراكة الثقافية والقومية التي اتصلت قرونا، ثم يخرج غالب المسلمين من الملة، ويكفر الآخرين بالجملة، ويدعي لنفسه العصمة الإيمانية، ويحصر السلوك الإيماني في طقوس وجلابيب ونقاب وحجاب ولحى، ثم يخرج على الناس شاهرا سيفه، متنقلا من التكفير إلى التفجير، وتحطيم المجتمعات، وإهلاك الحرث والنسل، منتهيا بالإسلام إلى خلافة قطع الرؤوس، وسبي النساء، وعلى طريقة «داعش» وأخواته، التي هي التعبير الصافي النقي عن جوهر من يسمون أنفسهم بالحركات الإسلامية السلفية السنية، فتنظيم «داعش» هو أعلى مراحل تطور ما يسمى بالحركات الإسلامية، التي ادعت أنها تطلب خلافة جامعة للمسلمين، ثم انتهت إلى تدمير المسلمين، وتفكيك أوطانهم بالجملة، وتخريب حياتهم التي خرجت من سباق الدنيا في الأربعين سنة الأخيرة، والمعنى ظاهر، فالذين رفعوا شعار «الوحدة الإسلامية»، انتهوا في الممارسة إلى إفناء المسلمين، ودفن معنى الوحدة العربية، واستهجان القومية العربية، ونعتها بالكفر المبين، وبدون أن يقدموا بديلا لنظم التجزئة والفساد والاستبداد والتخلف والانحطاط التاريخي، بل قدموا لها «القرين المهلك» لا البديل المنجي، وحولوا القصة كلها إلى مباراة في القتل وسباق في التكفير، وكأن تقوى المسلم صارت تقاس بقدر دمويته، وتحويل معنى التوحيد الإسلامي لله إلى معنى وثني، يجري التقرب إليه برؤوس القتلى. وكانت تلك هي الخيانة العظمى للإسلام وللعروبة، الخيانة التي وقعت في شراك طائفية بغيضة، لا تدعو إلى الإسلام بقدر ما تنفر منه، وتنفذ خطط الأعداء السالكة فينا كحد السكين، وتحول الأمة العربية إلى ألف أمة طائفية، تنفيذا حرفيا لخطة إسرائيل المعلنة، الموسومة باسم «خطة الشرق الأوسط»، والمنشورة علنا منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، والداعية لإقامة مئات الممالك والإمارات الطائفية على أنقاض أقطار الأمة العربية الممزقة أصلا، فقد قسمت اتفاقية «سايكس بيكو» ـ قبل قرن ـ أمتنا العربية إلى أقطار، وجاء الدور بعد مئة سنة على الحركات الإسلامية المزيفة، ومن نوع «داعش» وإخوانه، التي تقسم الأقطار إلى أمم طائفية، تنتحل لها صفة الخلافة، وفي تنفيذ حرفي لسياسة «فرق تسد» التي ابتكرتها الإمبراطورية البريطانية، يوم كانت لا تغيب عنها الشمس، وورثتها الإمبراطورية الأمريكية، التي تعمل باندماج استراتيجى تام مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وتجد سندها المفضل في حركات التمزيق المسماة بالإسلامية، وإلى حد بدت معه أمريكا كأنها زعيمة السنة، وفي مواجهة نفوذ متمدد لإيران التي تقدم نفسها كزعيمة للشيعة (!).
نعم، إنه فقه التفكيك تحت شعارات إسلامية تبدو جامعة، وانظروا من فضلكم إلى أي وطن «إسلامي» غزته هذه الجماعات، أو جربت أن تقيم خلافتها فيه، فثمة تناسب طردي بين حكم «الإسلاميين» إياهم وتفكيك الأوطان، ومن أفغانستان إلى الصومال فالسودان وليبيا والعراق وسوريا واليمن، أضف إلى ذلك «فتنة التفكيك» النشيطة في باقي الأقطار، والتفسير ظاهر قاطع، وحتى مع استبعاد نظرية المؤامرة التي تربط هذه الحركات بالاستعمار الجديد، فما من حاجة إلى استدعاء مؤامرات، ربما لأن دور هذه الحركات هو المؤامرة بحد ذاته، فقد جرى إنفاق المليارات عليها من فوائض البترو ـ دولار، وبهدف لفت النظر عن قضية الأمة الجوهرية في النهوض والاستقلال والتصنيع والتوحيد والعدالة، ولفت النظر عن قضية الأمة المركزية في فلسطين، وصرف النظر إلى أعداء آخرين، ومن نوع تفجير الثارات القديمة بين السنة والشيعة، وتكفير الشيعة، ورميهم خارج ملة الإسلام، ووصفهم بالروافض، ودفعهم إلى أحضان إيران الشيعية، وهو ما استفادت منه إيران في صعودها العلمي والعسكري والصناعي والتكنولوجي، ورمت هي الأخرى بملياراتها في ساحة زمن الانحطاط العربي، وخلعت الشيعة العرب من انتمائهم القومي، وجعلتهم احتياطيا استراتيجيا جاهزا، تقيم به أذرعها السياسية والتنظيمية المسلحة، وتخضع العواصم العربية الواحدة تلو الأخرى، وترد على تكفير الحركات الإسلامية للشيعة بتكفير آخر في الاتجاه المقابل، وتنزع عن السنة إسلامهم، وتحيي وصفهم القديم بالنواصب، وتقدم نفسها كوريثة لآل البيت النبوي العظام، وهكذا انتفخ النفوذ الإيراني بتكفير «السلفيين» إياهم للشيعة، ربما الفارق، أن النفوذ الإيراني كان واعيا بما يفعل، وكانت رحلة صعوده «قومية» بامتياز، فإيران بلد متعدد القوميات، والفرس فيها لا يشكلون سوى أقل من أربعين بالمئة من عدد السكان، بينما الشيعة في إيران هم الغالبية الساحقة، و»التشيع» هو القاسم المشترك الأعظم بين السكان، وسواء كانوا من الفرس أو العرب أو الكرد أو البلوش أو الأوزبك، وهو ما جعل «التشيع» رابطة قومية إيرانية أكثر صلابة، ثم أن «التشيع» أضاف لطهران قوة نفوذ متنام في جوارها الآسيوي والعربي، ونقل العرب الشيعة إلى «التابعية» الإيرانية عمليا، وقد كان حظ إيران أنها نهضت في الوقت الذي انحط فيه العرب، وسادت أوساطهم نزعات التفكيك والتخلف، وتفشت فيهم الحركات الطائفية المسماة بالإسلامية، التي حولت سنة رسول الله إلى شريعة تفكيك، وإلى تنابز بالمذاهب والفرق، وإلى «بسملات» و»حوقلات»، لا تبني مصنعا ولا تقيم مزرعة ولا مدرسة، بل تنشر التكفير والتفجير، وتزدهر بظواهر الفجور العقلي والسلوكي في عصر ما سموه بالصحوة الإسلامية، ولم تكن صحوة بل كبوة، جعلت العرب في أسفل الأمم، وحولت المسلمين إلى «قصعة» يتداعى عليها الآكلون.
وبالجملة، حالنا يدل على مآلنا، و»فقه التفكيك» حول الإسلام إلى طائفية ومذهبية مهلكة، ولا حل بغير توحيد المعنى الإسلامي، وبلا تعصب مقيت لا لشيعة ولا لسنة ولا لصوفية ولا لسلفية، ومع رد الاعتبار للقومية العربية الجامعة أولا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً