اراء و أفكـار

مستقبل المعادلة السياسية في العراق

د. مثنى عبدالله
ليس من المعقول أن تبقى حدود المعادلة السياسية التي رسمها المحتل في العراق ثابتة، فالظروف الموضوعية في البلد قد تغيرت، كما أن الظروف الذاتية لكل قوة لم تعد كما كانت في الأيام الأولى للاحتلال.
نعم لقد حصل تغيير كبير في الرؤى والمناهج والأفكار والأساليب لكل الاحزاب والتكتلات والجهات السياسية على الساحة، بعضها منظور والآخر غير منظور، وبعضها سلبي والآخر إيجابي. المهم أن التغيير حاصل ومستمر بفعل قوى وعوامل السلطة المادية والمعنوية، وهي سُنةٌ في العمل السياسي، الذي هو جزء من حركة الواقع بشكل كامل. كانت المراهنة على القوى الكردية وأحزاب الاسلام السياسي الشيعي هي التي تأخذ حيزاً كبيراً في التفكير الامريكي. فالاولى كل ظروفها السياسية والاقتصادية والامنية والعسكرية وطموحاتها القومية تجعلها حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، كما أن تاريخها مع الغرب عموماً والامريكان خصوصاً لم تشبه شائبة في يوم ما، فقد تبادل الحزبان الكرديان التحالفات مع دول كثيرة في المنطقة وخارجها، اتسم بعضها بالمتانة تارة والبرود تارة أخرى، لكنهما أبقيا على تحالفهما الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في مستوى المقدس، لذلك حرصت الإدارة الامريكية على استقلالية الكرد عن سيطرة المركز، كي يبقوا قاعدة ثابتة للمصالح الامريكية المستقبلية. أما الثانية – نقصد بها أحزاب الاسلام السياسي الشيعي – فإن الامريكان حاولوا أن يجعلوا منها أكثرية طائفية وليست سياسية، ظنا منهم بأن استحواذ هذه القوى على أصوات الشيعة سيؤبّد استحواذهم على السلطة السياسية في البلد، وبما أن ولاء هذه الاحزاب مزدوج أمريكي – إيراني، فإنه قناة مستقبلية جيدة لتطوير العلاقات الامريكية الايرانية، حيث سيؤدي اهتمام الطرفين بالشأن السياسي العراقي والتعامل اليومي معه، والرعاية السياسية التي يقدمونها لحلفائهم في بغداد، الى جلوسهم إلى طاولة واحدة مرات عديدة وجها لوجه، وقد حصل هذا بشكل معلن وغير معلن أيضا. ولاستمرارية هذه السياسة فقد رسم الأمريكان دائرة القوى السياسية في العراق بشكل مشوه وغير متوازن إطلاقا، كما عملوا بكل جهد كي يجعلوا الحكومة حكومة اللون الواحد، كي تُكبّل الشارع العراقي وتفرض عليه إرادة سياسية واحدة، ظنا منهم أن ذلك سيؤدي الى سيرٍ سلس للعملية السياسية، من دون مشاكل، بما يضمن استمرار الغزل مع الإيرانيين، من دون صدامات قد تعكر خط السير نحو الهدف المرسوم. غير أن مشكلة الحكومات ذات اللون الواحد هي أن الرئيس فيها، باعتباره ممثل الطرف الاقوى، لا يمكن أن يكون في وسط دائرة القوى السياسية كي يمسك بخيوط اللعبة السياسية جيدا، لانه مُجبر على أن يجلس في حضن لونه الطائفي السياسي، مما يجعله غير قادر على الامساك بجميع خيوط اللعبة السياسية، فتتحول نظرته الى القوى الاخرى على أنها هامشية، أو مجرد ديكور. هذا الوضع ولّدّ تحديا كبيرا في العراق، لأن اللون السياسي الطائفي الفاقع سبب انقساما مذهبيا جوهريا، مما شلّ قدرة أي رئيس وزراء على الفعل حتى لو كانت النيات الحسنة متوفرة، أو كانت لديه الرغبة الفعلية بالعمل الصحيح. كما أن السلطة لن تعود الى عموم الدولة، بل ستبقى موجودة وموزعة في مراكز قوى أخرى خارج الدولة، بل حتى لو كان هنالك فوز حقيقي وليس شكليا بالاكثرية، فإن اللون الطائفي الواحد كفيل بتكبيل الفائز والقضاء على أي أمل في الاصلاح السياسي، للخروج من هذه الشرنقة.
أمام هذا الوضع المتأزم أدركت القوى المهمشة الأخرى أنها ستسقط أمام حواضنها، إن بقيت تراوح في أماكنها ومناصبها الديكورية، من دون صلاحيات حقيقية، خاصة أن هذه الحواضن كانت توجهاتها ونظرتها الى العملية السياسية مختلفة تماما عن توجهات هذه القوى، وأنها تعرضت لضغط هائل من تركيا ودول عربية، وكذلك المحتل، كي تنتظر نتائج العملية السياسية وأن لا تعارض مبكراً بشكل سافر. ولتطمين هذه الحواضن غير المقتنعة بالعملية السياسية، حاول المحتل القيام بعملية توازن رعب داخل المجتمع العراقي، فبما أن الأكثرية الطائفية السياسية لديها ميليشيات قادرة على قلب الطاولة والضغط على الآخرين، فإن من الاولى إنشاء ميليشيات للطرف الآخر، فكانت الصحوات التي أوعز اليها مقاتلة «القاعدة»، لتحقيق إنجاز كي يكون الطرف الاضعف في المعادلة السياسية قادرا على فرض إرادته بقوة إنجازها، لكن الحقيقة أن أحزاب الإسلام السياسي السُني المشاركة في السلطة، وجدت أن هذه الوسيلة كفيلة بتخليصها من خصومها الحقيقيين، وهم المقاومة الوطنية وليس «القاعدة»، لأن «القاعدة» طارئة بينما المقاومة كيان أصيل، والكيان الأصيل دائما يفرض استحقاقاته على المشهد السياسي، حتى لو كان هناك اختلال كبير في موازين القوى بينه وبين الاخرين. وعندما قامت الصحوات بملاحقة وتصفية العديد من عناصر المقاومة، حملت قوى الاسلام السياسي السُني هذا الانجاز وقدمته الى الحكومة أملاً في أن يكون شفيعاً لها عندها، وأن يمُنوا عليهم بالمناصب والصلاحيات والامتيازات، على أعتبار أنه بات الممثل الشرعي والوحيد للطرف الاخر، لكن سلطة اللون الطائفي الفاقع سارعت الى اجتثاث واعتقال واتهام الصحوات بالإرهاب، وحرّكت عليهم الحق الشخصي كي يلاحقهم ويقتص منهم، لانها ليست على استعداد لقبول شركاء أقوياء في السلطة، كما أنها تعلم جيدا الهدف الحقيقي من إنشاء الصحوات، ولن تسمح مطلقاً بالتجاوز على احتكارها للسلاح والميليشيات، بل العراق كله. في ضوء هذه التطورات التي تشي بانسداد الافق السياسي، لم يعد أمام شريحة واسعة من الشعب العراقي إلا العصيان المدني الذي تمثّل في اعتصامات المحافظات الست، الذي تطور لاحقا الى ثورة مسلحة أجبرتهم السلطة على السير في طريقها بعد أن وجهت أسلحتها الى صدورهم العارية، لكن المفارقة الكبرى أن قوى الاسلام السياسي السُني بعدما خسرت كل أوراقها، وبدلا من أن تعترف بخطئها وتنحاز الى حواضنها، رفعت الراية البيضاء أمام الطرف السياسي الاقوى الذي يحتكر السلطة، وألقت بنفسها في أحضانه كخيار أخير لها، بينما طورت القوى الكردية من وسائل ضغطها على السلطة المركزية لتحقيق المزيد من استقلاليتها، كذلك حصّنت قوى الاسلام السياسي الشيعي سلطتها بالمزيد من الاحتكار السياسي، والمزيد من الارتماء في الحضن الاقليمي. السؤال المهم هو هل سيبقى الوضع كما هو عليه؟ نعتقد أن الاقوياء سيزدادون قوة، نقصد الاكراد والسلطة المركزية، مما سيؤدي الى صدام كبير، هو مؤجل في الوقت الحاضر لحين الانتهاء من تحرير بقية محافظات العراق من سلطة «تنظيم الدولة»، بينما الضعفاء سيزدادون ضعفاّ الى الحد الذي سيجبرهم على الاندماج مع الطرف الاقوى للسلطة، لتشكيل ما سيسمى قائمة وطنية. هذا هو خيارهم الوحيد بين فكي المرشد الكردي والمرشد السياسي الشيعي، بعد أن أضاعوا بوصلتهم الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً