اراء و أفكـار

العراق المتغيّر

طارق الدليمي

في الصراعات الاستراتيجية الكبرى وفي التطبيقات العملية، كما يشير هال غاردنر بتميّز ومنذ سنوات، تنزع الولايات المتحدة دائماً إلى تقزيم الأفكار الاجتماعية المناهضة لها، وإلى تضخيم الأفكار السياسية الخاضعة لها. لكنها، على العموم، لا تلتزم بالمعايير الاصطلاحية المتفق عليها، والتي ارتبطت بالمضامين المهمة في العلوم الإنسانية. فهي من الجانب الرئيسي لا تراعي الالتزام بمفردات السجال والنشاط السياسي والديبلوماسي. فالمعادي لها هو «ناشط» سياسي، والمتواطئ هو «مناضل»، والصديق هو «معتدل» والعدو «مستبدّ». وفي الصراع السياسي لديها، لا توجد «جهات» أو «جبهات» أو حتى «قوى وأحزاب» اجتماعية أو سياسية. هناك فقط «لاعبون»، إن كانوا أصحاب «دول – فنادق»، أو دمى محنّطة أو نقابات حقيقية أو افتراضية تنسب إليهم فعاليات عملية وتكون عملياً بديلاً من «الحكم» السياسي أو «السلطة» السياسية. بل هي أحياناً، وكذلك اوروبا التابعة، تضع «الدولة» بدلاً من «الحكومة» والعكس أيضاً. ويعقب غاردنر بأنها، وفي خضم هذا الجهد الاصطلاحي الساذج، مازالت تعيش «الحالة الفكرية» لمنتصف القرن التاسع عشر، 1859، حين انفجرت الفقاعة النفطية عندها، وكان التاريخ يميل بصورة جيوسياسية مزدوجة، حيث امتداد بعض الدول إلى امبراطوريات، ومنها اميركا، و «انكماش» بعض الامبراطوريات، ومنها السلطنة العثمانية، إلى دول. لكن اميركا، في تصوراتها الفكرية هذه، تشبه المراقب الذي يشاهد الحدث، ومن ثم يصبح جزءاً لا يتجزأ من الحدث في حالة اضطراره إلى الاستيلاء عليه والمباشرة في نقل مجموعة الصور، السياسية التحليلية أو الإعلامية، التي تعبّر عن وضعه وحالته.
إن هذه الحالة تسمّيها التحليلات العلمية «ظاهرة هايسنبيرغ». هكذا هي تتصرّف باستمرار في سياستها الخارجية، لاسيما في الجانب الاحتلالي العسكري منها. وهي في سياساتها اللاحقة، وتحديداً تلك القاضية بـ «الاحتواء» لا تختلف في شيء أبداً عن سياسة إغلاق بوابة الأسطبل بعدما فرّ منه الحصان. هكذا، مثلاً، نجد أن أوباما، مازال يتحدث عن أخطاء الطائفية في العراق! وكيف أنها مورست ضد الناس ونجم بالتالي عنها الاحتقان الاجتماعي والغليان السياسي والتمرّد المسلح، والذي كان «داعش» ذروته العسكرية ما أدى إلى زعزعة الاستقرار في العراق والإقليم. إن المكابرة هنا ايديولوجية محضة، وهي الرد المتناسق والمتجانس مع مفهوم الاحتلال الفكري التطبيقي، والذي يقودنا للقول بأن: «قوة الاحتلال لا يمكنها أبداً أن تحقق الاستقرار، ذلك أنها هي السبب الأساسي في عدم وجود الاستقرار».
الأوهام العملية والسيادة الناقصة
وفي المجال التطبيقي لما بعد الاحتلال، وأحياناً قبله في نموذج العراق، فإن الامبريالية الأميركية تشحن القوى المتعاونة معها بجرعات فكرية، لترسيخ سلطة الاحتلال وتثبيت المتعاونين معها. وسهولة الاحتلال للعراق تجزم بأهمية هذا الجهد الأيديولوجي، وأن خنوع النخب هذا منع بروز العديد من العقبات الموضوعية المعادية لمسيرة الاحتلال. لكن من الملاحظ أيضاً أن هذا التعاون بين الاحتلال والنخب كانت ترافقه دائماً رزمة غير عادية من الأوهام الفكرية والسياسية من الجانبين الأميركي والعراقي. وهذه الأوهام، على الخصوص، تنشأ من بيئتين، الأولى هي «البيروقراطية» الجاهلة في المركز، والثانية هي «البيروقراطية» المتعاونة والجشعة في البلاد، والتي تدير عجلة الاحتلال عملياً. وهي تتصور مثل الاحتلال بأنها قادرة على اجتراح المعجزات وتحقيق المستحيل بمجرد أنها فوّضت سياسياً ضمن «الديموقراطية الاحتلالية».
إن تصدّع الوضع الداخلي نتاج مباشر لهذه الأوهام حيث يسود الصراع العسكري في كل البلاد وبقيادة أنماط الميليشيات المسلحة كلها، وفي المقدمة «داعش» وقوات البشمركة الكردية وقوى المقاومة السابقة، والتي تحولت عملياً إلى قوى طوائفية تساند «داعش»، شاءت ذلك أم أبت.
الجغرافية السياسية المتغيرة تاريخياً
في هذا المضمار العسكري، تقف الجغرافيا السياسية للعراق بكامل شخصيتها المتأزمة. إن الجغرافيا السياسية الآن تبدو دائمة التغيّر والتبدل. هي تعلن بصراحة أنها غير محايدة فكرياً أو سياسياً. وهي منحازة اجتماعياً بالمحصلة الى الجموع الغفيرة وذات الاستقطاب المركزي الحاد، وفي تطلعها نحو الاستقلال والازدهار. لكن يجب أن نتذكر جيداً أنه منذ العام 2010، اتضح وبصورة صارخة أن العراق مقبل على حالة من التغيير الغامض اذ إن نتائج «العملية السياسية» أصبحت في مهب الريح، ولم تتمكن إدارة اوباما من تصفية أو استكمال الفراغات التي تركتها إدارة بوش السابقة، تحديداً في مجال احتكار السلاح «للحكومة» في بغداد، وبقاء المنظمات العسكرية المسلحة العلنية والسرية معوقاً أساسياً أمام تطور «الحكومة» إلى دولة يُعتدّ بها. لقد أحبطت، مثلاً، عملية «خطة الحملة المشتركة» التي رفعت في تقرير خاص، في تموز 2007، من قبل دايفيد بيترايس وريان كروكر وويليم فالون، والذي صاغه الاستراتيجي الاسترالي ديفيد كيلكولين من أجل تحويل كل الجهد العسكري الداخلي إلى تصفية النفوذ الخارجي، أي الإيراني، بالاعتماد على قوى «الصحوة» ومشتقاتها. وكان البديل أمام «اوباما» هو الالتزام بخطين متوازيين، الأول السير بالعملية السياسية الى نهايتها المحتومة، والثاني بناء عمل مسلح جديد من كل البيئات، داخل وخارج العملية السياسية، والاستعانة بالوكيل النفطي التكفيري من أجل تصحيح الوضع السياسي العراقي والاقليمي أيضاً. ان هذه الخطة ليست وليدة الفراغ الموحى اليه كذباً نتيجة «الانسحاب» الأميركي، وانما هو الجنين الذي نما في رحم الجغرافيا السياسية للاحتلال وتغيراتها الطوبوغرافية الاجتماعية وتلاقحها الاستراتيجي السياسي مع المصالح النفطية الخليجية التكفيرية والطائفية.
الحدود والبضائع الأمنية
في دراسته المهمة حول «العراق بعد داعش»، يبدو الخبير الاميركي، ذو المصالح المادية في العراق والإقليم، دوغلاس اوليفانت، أشد قسوة من مطالعاته السابقة بخصوص المكونات الثلاثة في البلاد، ومتشائماً جداً من الاحتمالات المتنافرة التي ستبزغ في الشهور المقبلة. واذ يلوح صارماً في محاربة «داعش» إلا أنه يبقي الباب موارباً بخصوص مستقبله، مؤكداً أنه قد يتساكن مع «المكوّنات»، لا بسبب المصالح الخارجية، ولكن بفضل حالة «الآفة» التي تعيشها المكوّنات والصراعات الحادة المصيرية بينها. ويربط ذلك بالحاجات الملحّة لتسلح هذه المكونات وتثبيت سلطاتها المحلية. بيد أن اوليفانت، يهمل عوامل مهمة في سياق هذا الصراع المسلح والدموي. الأول يتمثل بالفشل الكلي في «إعادة إعمار» العراق، وطغيان، كما يسمّيها جندر فرانك، حالة تنمية التخلف النفطية. والثاني هو الدور المركزي للحدود بين العراق ودول الوكالة من جهة، وبين العراق وسوريا، وكيف ساهمت اميركا في تصفية هذه الحدود. فيما الثالث هو الدور المشبوه والفعال للشركات النفطية العالمية، وفي المقدمة «اكسون»، في رسم الحدود النفطية – العسكرية بدلاً من الحدود المتفق عليها في الخرائط الرسمية الدولية. إن الجغرافية السياسية هنا أمينة دائماً لتراثها التاريخي، وهي فرضت نفسها على الأجندات السياسية والحربية للجميع. والاحتلال الأميركي تلاعب بهذه المعادلات منذ اليوم الأول من الغزو والاحتلال، حين فتح الحدود في الاتجاهات كلها أمام البضائع والتهريب والسلاح والمنظمات التكفيرية الطائفية المتنوعة. وبعد ذلك مارس اللعب نفسه في داخل المدن وبين المدن أيضاً، من خلال سياسة بناء الجدران والأسوار والخنادق. وقد وصل هذا المشروع إلى قمته في بداية 2013، عندما «نزحت» المنظمات التكفيرية المسلحة من العراق الى سوريا وبالعكس أيضا، وبالمساعدة الكاملة من قبل تركيا والاردن والدول الخليجية النفطية. هنا ترتفع ظاهرة هايسنبيرغ، لتظهر لنا كيف أن هذه الحدود قد تحوّلت الى مستودعات للبضائع الأمنية المسلحة والمتنقلة بحسب الاحتياجات الجيوعسكرية الاميركية في تدمير سوراقيا وإحكام الطوق على إيران وتصفية المقاومة اللبنانية والفلسطينية من الداخل والخارج سوية. إن هذه البضائع الأمنية المسلحة بحاجة الى مؤسسات لإدارتها وتطبيق الرغبات الايديولوجية المتحركة في مساحات المصالح الأميركية والإسرائيلية أولاً، والنفطية العالمية والإقليمية ثانياً.
«داعش» في طورَين
من هنا يجب أن نؤكد بأن البضائع الأمنية في ظهورها العلني وفي حدود سوراقيا والحدود العربية المقاومة مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين والأميركي لأراضٍ عربية أخرى، هي «العلامة» التجارية المحدّدة للسلوك السياسي الخاص بالقوى الطوائفية والعرقية المسلحة على طول هذه الحدود في منطقة الصراع الراهن. ولقد كانت «داعش» أمينة حتى في طورَيْها الأول الطائفي في بداية الاحتلال الأميركي، وفي طورها الثاني الطوائفي حين تصدّعت العملية السياسية واتجهت الأمور نحو الانفلات الكامل. وهي الآن، وعلناً، تؤكد أن «إمارة الاستيلاء» التي تتزعّمها قد تساوت مع الحكومات السياسية لدول الوكالة الطوائفية النفطية وغيرها في الإقليم. إن قوانين الأواني المستطرقة قد وضعت هذه المحميّات العسكرية في إطار واحد من التبعية والنهب والتدمير، ناهيك عن السقوط النهائي في مستنقع الخيانة الوطنية والقومية. والسؤال الأخير وليس الآخر، وإذا طبقنا «نظرية تاوني» حول نمو الضفادع في المستنقعات، لماذا انتعشت بويضات ضفادع «داعش» في الإقليم ولم تنتعش بويضات طيور الديموقراطية الأميركية؟ لقد استوى الكل في خط واحد، وإلغاء المصطلحات أصبح مترادفاً مع إلغاء الحدود والأخلاق، أما الباقي، فبضائع أمنية مسلّحة ومهربة من دول الجوار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً