اراء و أفكـار

العبادي بعد الطوفان

رباح ال جعفر
كان يمكن للدكتور حيدر العبادي أن يأتي في غير زمانه. كان من الممكن أن يكون رئيساً للوزراء في زمن آخر. لا تستوقفه أخبار الافلاسات، وميزانية الدولة المنهوبة، وأرقام التضخم، وجيوش العاطلين، ومخيمات النازحين، والمدن المدمّرة، والمدن المحاصرة، وثلاجات الجثث المجهولة، وفضائح الفاسدين، وحمولات ثقيلة من أوهام وهموم، والمصائر المأساوية، والعاهات المستديمة، والحروب المفتوحة.
كان يمكن للعبادي أن يشيع جواً من الألفة بالتقاطه الصور التذكارية مع شباب طافحين بالأمل، وأن ينصت إلى أحلام الناس باهتمام، ويقبّل عيون الشهداء، ويلثم جراحات الجرحى، ويستمع إلى الفقراء، ويمسّ شغاف قلوبهم، ويقود المعركة الكبرى لبناء الدولة، ويواجه الحقائق المريرة، ويمقت التعصب والطائفية، ويقيم حكومته على الحب، والتسامح، وشقائق النعمان.
لكن العبادي جاء في أشد اللحظات قساوة وقتامة على وقع نزعات انتحارية وانهيارات متتالية. انهيارات في الأمن، وانهيارات في الاقتصاد، وانهيارات في التوافق الوطني، والعملية السياسية في غرفة العناية الفائقة، وهي في حاجة عاجلة إلى مشرط طبيب جرّاح تستدعي أحياناً البتر والخلع، دون أن تسيل نقطة دم واحدة في بلد ينام على الجنازات، ويتلوّى على أحرّ من الجمر. وهناك مشكلة يقظى كأحكام القدر اسمها الفتنة الطائفية، وخارطة ترتجف، ووطن يتآكل، ومواطنة تنقرض، ومطلوب منه أن يفتح نافذة للأمل على كهف من الظلام.
في هذا المناخ العاصف بالأزمات، يصبح منصب رئاسة الوزراء أشبه بمقامرة، أو صندوق طلاسم وويلات. وكان العبادي في حاجة إلى خوارق ومعجزات ليحكم بلداً فقد عقله، وإلى شفاعة المقادير لينقذ ما يمكن إنقاذه، ويتجاوز مآسيه الدامية الحزينة، وإلى الحظوظ السعيدة لترميم بيت استبيح من داخله وخارجه لكل حامل بندقية، أو طالب غنيمة، أو باحث عن ثأر.
فما الذي يستطيع حيدر العبادي أن يفعله في مواجهة نزعة الانفصال عن الهوية الوطنية، والدعوة إلى التحصن في الأقاليم، والحدود المفتوحة مع جيرانه، وفوضى السلاح في كل مكان، وتشكيل جيش جديد باسم الحرس الوطني، وحيتان الفساد والقراصنة وسمك القرش الهائج، والمصالحة المؤجلة بين أبناء العمومة والخؤولة، والمحاصصة التي التهمت كل شيء، وهناك إرادات دولية وإقليمية مزعجة تريد للعراق أن يبقى تحت الركام؟!
لم تكن هناك صورة واحدة تسرّه أو تسلّيه، وتشكيل وزاري لا يعطيه حق اختيار وزرائه، وأحزاب طامعة في مناصب ومكافآت، وشعب منقسم على نفسه، مشتت الولاءات والنزعات، وبرلمان لا يشبه أيّ برلمان، وسوق مزادات سياسي صاخب بصراخ وصياح، كل فريق يبكي على ليلاه، وأسعار بازار تعلو وتهبط، تحولت في كثير من الأحيان إلى إتاوات وغابات من خناجر، ومؤسسات غارقة في الطين، ولم يكن في مقدوره الانقلاب على دستور مكتوب بطريقة الأحزمة الناسفة، وكان كل هذا يعترض طريقه إلى التغيّير.
لذلك كله يبقى السؤال الحائر: ماذا يستطيع أن يفعل حيدر العبادي في زمن ما بعد الطوفان ؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً