مفاجآت دموية في الحروب العراقية
داود البصري
الحرب ليست نزهة أبدا, والهوسات والشعارات لن تحقق أي نصر ستراتيجي لوحدها , والمأزق الدموي للحرب الأهلية العراقية قد دخل في منعطف حاد ودموي موجع يؤشر على نتائج مستقبلية قريبة قاتمة وسلبية على صعيد إدارة الصراع الداخلي في العراق وإمتداداته الخارجية والإقليمية أيضا , لقد بينت معارك قضاء تكريت الدموية الأخيرة إن حسم الصراع مع الجماعات المسلحة في ظل الشعارات والأجواء الطائفية ليس بالأمر السهل أبدا , بل أن مفاجآت الميدان قد أظهرت ضعفا خطيرا في البنية العسكرية العراقية تمثل في فوضى التنسيق بين قطعات الجيش الحكومي وبين الميليشيات الطائفية التي مارست سياسة الأرض المحروقة, ونفذت أجندات إنتقامية على أسس طائفية محضة ومريضة.
لقد كان التصور المسبق أن معركة تكريت ستحسم منذ ساعاتها الأولى نظرا الى حجم القوة المهاجمة فهي أكثر من 15 ألف عنصر , وكمية النيران الهائلة , ولمحدودية مساحة القضاء , وكذلك لإنسحاب عناصر تنظيم الدولة من غير العراقيين وبقاء عدد قليل من مقاتليهم بهدف المشاغلة, لكون التنظيم كان يركز ويعد لنقل ساحة المواجهة الرئيسية من تكريت نحو الأنبار وهو ماحصل فعلا وسجل مفاجآة عسكرية تعبر عن فشل جهاز المخابرات العسكرية العراقي , فالحديث عن تحرير تكريت أصابه الفتور فجأة بعد أن تكبدت القوات المهاجمة خسائر كبيرة وغير منتظرة رغم المشاركة الميدانية لمتطوعي “الباسيج” الإيراني وتواجد أكثر من 100 مستشار عسكري من الحرس الثوري كما أكد هادي العامري نفسه.
لقد بلغت الدعاية الإعلامية لجماعة الحشد عن تكريت تصويرها وكأنها معركة “ستالينغراد” ولكن الفشل تجلى بعد أيام من المعارك ثم الإضطرار للتوقف التعبوي إنتظارا للمزيد من الأمدادات, وهذا يعني في العرف العسكري فشل الهجوم وفقدان زخمه الأول الكبير وتحول العمليات لحرب إستنزاف وقنصا متبادلا كلف الميليشيات الكثير من الخسائر البشرية, وكشف عن خلل عسكري خطير جدا تمثل في لجوء الميليشيات لأفعال وأعمال إنتقام خارج سياق القانون وهو ما أكدته المنظمات الدولية وخصوصا منظمة “هيومان رايت ووتش ” التي نقلت صورا مرعبة عن أعمال إنتقام طائفي قد تكون صورة تكوينية عن حجم الكوارث التي ستحصل في حال نقل القتال لتحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة.
لقد حرصت قيادة قوات التحالف الدولي على عدم التدخل المباشر في معارك تكريت واعتبار المعركة عراقية صرفة, إلا أن واقع الحال لم يسر أبدا نحو تلك النتيجة بل تحولت لحرب إيرانية – عراقية مشتركة – فإدارة وقيادة العمليات كانت إيرانية , وكثير من قادة الحرس الثوري سقطوا في المعركة, لا بل أن التعزيزات المدرعة قد دخلت للعراق من منفذ المنذرية في خانقين, كما أن توابيت الجثث الإيرانية متجمعة في المنفذ نفسه, وطبعا الولايات المتحدة يسرها كثيرا أن ترى خصومها وهم يتقاتلون ويصفي بعضهم بعضا, ولكن إنعكاس الصراع على المدنيين العراقيين يتطلب مسؤولية اخلاقية في لجم الروح الإنتقامية ومنع إنتشار الفوضى المهلكة التي تزيد من حالة التشظي العراقية.
المعارك العراقية المتنقلة اليوم هي معارك إستنزاف دموي مكلفة بشريا وماليا وسياسيا والحكومة العراقية باتت في حالة من الضعف بحيث إن إستمرار عجلتها مرتبط بزيادة الدور الإيراني المساند وهو دور تحول لتورط كبير بعد أن أضحى قائد فيلق القدس قاسم سليماني معبود الميليشيات المسلحة وتواري بل إنعدام دور وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي الذي تحول” لخيال مآتة ” أو”خراعة خضره ” فتصريحاته المستعجلة حول حسم المعركة باتت نكتة ثقيلة, والقادة الإيرانيين من الحرس الثوري هم وحدهم من يتحكم بمسار العمليات, وجماعة الميليشيات الطائفية إزدادت قوة وظهور مما يعني ان مخططا لإعلان قريب لمؤسسة الباسيج العراقيين أو قيام مؤسسة “الحرس الثوري العراقي” البديل عن الجيش العراقي الرسمي, هذه هي النتيجة النهائية التي يسعى لها الإيرانيون الذين يعدون الخطوات نفسها في سورية والذين يمتلكون “حزب الله” اللبناني و”أنصار الله” الحوثي اليمني, معارك العراق ستعلن قريبا عن الولادة الرسمية لمؤسسة “الحرس الثوري العراقي” فالمسألة مسألة وقت وقريب جدا, ساعتها ستنطلق حساسيات ومخاوف إقليمية كبرى تعيد صياغة المشهد الفوضوي العراقي من جديد.