ذلك النزيف العراقي المهلك
داود البصري
الجرائم الطائفية الشنيعة الدائرة في العراق منذ أكثر من عقد ونيف من قتل على الهوية، واستهداف متبادل لمكونات الشعب، ومن تشريد وتشتت وفوضى بعد انهيار الدولة الوطنية الجامعة المانعة، وتشكل إمارات الطوائف، والتخلف، والنهب، والعدمية، وانحدار مستوى الطبقة السياسية الحاكمة للحضيض، وتسيد الفساد وتحويله العراق واحدة من أكبر الدول الفاشلة في المنطقة، ومن ثم الانتشار المرعب للميليشيات والعصابات الطائفية التي ألغت الدولة وداست على هيبتها، وحطمت أسسها ومعانيها، جميعها صفات وخصال لحالة تشرذم عراقية غير مسبوقة في التاريخ العراقي والعربي المعاصر.
لقد زرعت أسس الخراب العراقي العظيم، وقامت دولة الميليشيات التي طوت تحت جناحها المرعب كل مؤسسات الدولة العراقية التي تحولت لأطلال وهشيم بعد أن تراجعت النخب السياسية عن أداء واجبها الوطني والأخلاقي، وبرزت التكتلات الطائفية والجماعات الطائفية التي تعتاش على العنف، وكل رصيدها الفكري والمعرفي والسياسي يتمحور حول شعارات الثأر الطائفية التي اوردت العراق مورد الهلاك!
في العراق اليوم وبعد الأداء الباهت لحكومة حيدر العبادي التي رفعت شعارات إصلاح وطنية كبرى لتعويض سنوات الجدب، والقحط، والفشل المالكية، لا صوت يعلو على صوت الطائفية الرثة التي أضحت هي المتحكمة للأسف في أداء الشارع السياسي، فبعد الاغتيال الإجرامي البشع قبل أيام لشيخ الجنابيين الشيخ قاسم الجنابي وولده وعناصر حمايته في وسط بغداد، وعلى يد العصابات الطائفية وتحديدا جماعة “بدر” التي يقودها القيادي الحرسي، النائب الحالي، الوزير السابق هادي العامري، التي كان واضحا، ووفقا لأدلة ميدانية شاخصة، أن عناصرها هم من نفذوا تلك الجريمة الطائفية البشعة، توتر الوضع السياسي والطائفي وهدد تحالف القوى الوطنية بالانسحاب من العملية السياسية في ظل خلافات ونزاعات قوية داخل التحالف الديني جعلته يعيش في حالة مفككة وبات غير قادر على بلورة موقف نهائي من الأحداث.
لقد وعدت الحكومة بالتحقيق ولكنها تعلم، والجميع يعلم، أنها غير قادرة على محاسبة الميليشيات، وخصوصا ميليشيا “بدر” التي يقود وزيرها في الداخلية محمد سالم الغبان كل حلقات وتفاصيل العملية الأمنية في العراق، أي بعبارة أخرى فإن “حاميها حراميها”!، كما أن الأمين العام لحركة “بدر” هادي العامري الذي تحول لجنرال يقود العمليات العسكرية من دون صفة رسمية بات أقوى من الحكومة ذاتها بعد أن تحول لمركز قوة عتيد، بل ان أهل السنة في العراق يصفونه علنا بـ “رجل الموت”! فهو بسبب ارتباطاته الإيرانية وانضوائه تحت راية “فيلق القدس” للحرس الثوري، وعمله تحت امرة الجنرال الإيراني قاسم سليماني، أضحت سلطاته الميدانية أقوى من سلطات رئيس الحكومة ذاتها. وتعدى على صلاحيات وزير الدفاع العراقي الذي غاب تماما عن المشهد العسكري الساخن وتحول حقيقة لشاهد زور في مشهد عسكري بائس وفي ظل آفاق مسدودة وانهيار حقيقي على كل المستويات، خصوصا ان عملية تحرير الموصل رغم الكلام الكثير عنها لا ينتظر أبدا أن تتم في هذه الظروف التي تشهد تشابكات على المستويات كافة، فالجانب الكردي بدوره رفض بالكامل دخول الميليشيات الشيعية لكركوك وهدد بمواجهتها عسكريا ما اضطرها للانسحاب السريع مع إطلاق تهديدات مماثلة من زعيم عصابة “العصائب” قيس الخزعلي ضد قوات “البيشمركة” الكردية.
كل الأصابع في العراق على الزناد مؤذنة بافتتاح بازار الفوضى الشاملة والاغتيالات المقبلة التي ستطال قيادات مهمة من كلا الجانبين!
الاستنزاف الدائم في العراق هو الحالة الأكيدة والمعبرة اليوم عن الكينونة العراقية مترافقا مع حالة إفلاس الخزينة العامة بعد أن نهب الناهبون، وهرب الآخرون بغنائمهم، وتهاونت الدولة كثيرا في التحقيق والمساءلة مع من تسبب بكل هذا الخراب، وهو رئيس الحكومة السابق نوري المالكي الذي يستوي اليوم على كرسي نيابة رئاسة الجمهورية، بدلا من أن يكون في مكان آخر يتناسب وما فعله بالعراق من خراب عظيم ومستمر! ومع تصاعد أوضاع الشد الطائفي يبدو العراق يسبح في المجهول!