اراء و أفكـار

التاريخ يعلن الحداد

احمد الجنديل

بين التاريخ والجغرافيا ألفة وتَواصل، وكلما توثقت عرى التفاهم بينهما ازداد الشعب إيماناً ووعياً بضرورة بناء الحياة القائمة على معطيات التاريخ ورفدها بعناصر الرقي والتطور. وإذا كان تاريخنا يحمل في جوفه الكثير من الكنوز، فانّ أغنى كنوزه وأغلاها ما يتعلق بالآثار، باعتبارها الشاهد الحي، والدليل الملموس، والبرهان الذي لا يقترب إليه الشك، على أصالة الشعب الذي ينتمي إليه. لا أتحدث عن تاريخ الراوي والرواية والقائل والمقولة، ولا عن أحلام السلاطين ورؤى النائمين، ولا عن أطنان الأوراق الصفراء التي اختلط على صفحاتها الحابل بالنابل، والحقيقة بالخرافة، حتى انقلبت مصدر شقاق ونفاق، وعثرة على طريق البناء والتطور، ففي بلد الأساطير والحكايات والشعراء، جغرافيا حملت في أحشائها، وعلى ظهرها كلّ صنوف الثراء، وتاريخ أودع الله فيه كلّ منابع الإبداع والإشراق والتألق، وابتلاه بحكومات لا تعرف قيمة ماضيها وحاضرها، فامتدت الأيدي الآثمة لتسرق ثروات الجغرافيا وتوزعها على بنوك العالم، وتركت التاريخ عرضة للصوص الليل والنهار من الحكومات والأشخاص، فتوزعت كنوزه على متاحف العالم، دون أن نسمع صرخة استغاثة، أو كلمة رثاء، وفي بلد الكذب والضحك على ذقون الفقراء من الشعب الغارق في مستنقع التخدير، امتدت الأيدي لتسرق مئات المليارات في أبشع صورة للنهب والسلب وعلى مر تاريخ البشرية، رافقتها أقذر عمليات السطو على كنوز التاريخ، أحدثها كان مع مخطوطة التوراة التي وصلت إلى إسرائيل مؤخراً وسط احتفال بهيج شارك فيه عدد من الحاخامات المتطرفين، وبحضور وزير خارجية إسرائيل ليبرمان، وقرر الجميع استخدام هذه المخطوطة للصلاة اليومية في القدس المحتلة، هذه المخطوطة ومعها ملايين الوثائق قد اقتطعت من رحم التاريخ العراقي أثناء اجتياح القوات الأمريكية لأرض العراق، وبعد وصول المخطوطة آمنة مطمئنة إلى إسرائيل، أعلنت وزارة السياحة والآثار مشكورة عن احتجاجها الخجول على استحواذ الدولة العبرية على مخطوطة التوراة، وهي تطالب المجتمع الدولي باستعادتها، وترغب في الحصول على إجابات واضحة حول مصيرها، ولكي نرفع ثقل العناء والخجل عن وزارتنا العتيدة في معرفة الحقيقة، سنقول لها بكل أمانة وصدق ووضوح، بأنّ المخطوطة ضمن الموروث العراقي المنهوب، وهي جزء من تاريخ العراق ساهمت مع غيرها من الآثار المسروقة على صياغة الهوية الوطنية لتاريخ هذا البلد وحضارته، وهي مع غيرها من المسروقات تشكل شاهداً على عمق حضارة هذا البلد المستباح، وسرقة المخطوطة وغيرها ممن سرق قضية وطنية تهم الشعب العراقي بمختلف دياناته وقومياته وطوائفه، التوراة المسروقة لم ولن ترجع إلى العراق، مهما ارتفع صراخ الوزارة، وعليها أن تلتفت إلى ما بقي من آثار في متحف الموصل وغيره، وأن تسمع صراخ التاريخ وهو يبكي آثار العراق المنهوبة، فقد أعلن الحداد، وأقام مأتماً، وعلى وزارتنا المنصورة بإذن الله أن تسرع لاستقبال المعزّين.
ويل لشعب يفرط بماضيه وحاضره، وويل لمن أوصلنا إلى ما نحن فيه من غضب الله والتاريخ..
إلى اللقاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً