ثقافة وفن

الكتابة ومنازلها .. من الرقم إلى الالكتروني ومن سومر إلى العصر الحديث

الحضارة-السومرية

عن دار “حوران للنشر والتوزيع”، بدمشق (2014)، صدر كتاب بعنوان “من الكهوف إلى النشر”، للكاتب يوسف الجهماني، ونلفت القارئ إلى أن المؤلف رحل عن الحياة قبل أن يضع لمساته الأخيرة على الكتاب، وجرت طباعته بعد وفاته بقليل من تدخل أصدقائه في النص، وهو ما توضحه المقدمة. يوسف الجهماني، له العديد من المؤلفات، منها “تورا بورا أولى حروب القرن” و”من تاريخ تكفير التفكير في الإسلام” و”العرب والعالم الإسلامي”.

لم يكن للحضارة الإنسانية أن تبني صرحها التاريخي لولا الكتابة، الكلام سبق كتابة الحروف بمئات القرون، ولكنه ما كان له أن يتحول إلى لغة- لغات لولا دخول الإنسان عصر تدوين رموزه الأولى التي شكلت مادة بدائية أولية لتمايز اللغات بين الحضارات، ولقد مرّت عملية الكتابة بتطور “منازلها” مواضع تثبيتها بمراحل زمنية متباعدة، وبتنوع للمواد التي يثبت فيه الحرف والكلمة، من الرقم الطينية والألواح الحجرية المنحوتة، مرورا بورق البردي والجلود، ثم جاء اكتشاف صناعة الورق الذي بات يتعرض لتهديد الكتابة الألكترونية.

ذلك هو موضوع كتاب يوسف جهماني “من الكهوف إلى النشر”. ولأن القراءة هي فعل يجريه الإنسان على مادة مكتوبة، يحيلنا تناول الموضوع أيضا إلى مكانة القراءة في تطور الإنسان، فكريا وفلسفيا وفنيا وأدبيا.

سقراط لم يكتب أفكاره الفلسفية، هذا واقع، لكننا لم نكن لنعلم بما قاله وتلاه على تلامذته لو بقي ما كان يردده فيزياء صوتية سمعها من سمع، وانتهى الأمر.

وقس على ذلك مصير الفلسفة اليونانية بكاملها، التي يعتبر سقراط “أبوها”، الحاجة إلى الكتابة ظهرت مع بداية انتقال الإنسان من العيش في الكهوف إلى منازل مصنوعة من مواد الطبيعة.

الجهماني يرى أن أحد أكبر عوامل تكريس التأخر في أوجه الحياة العربية، ناشئ عن ضعف وفقر الاهتمام بالكتاب

ونطالع في الكتاب عرضا يبين العلاقة بين حاجات الحياة وضرورة الكتابة. فكانت النقلة من الشارات المثبتة على أشكال كروية أو مثلثة، مصنوعة من الطين. والسومريون هم أول من قام باستخدام الكتابة للتعبير عن الفكر. وحسب المؤرخين، حدث ذلك في الألف الرابعة قبل الميلاد. كما يمكن تخيل أنهم استخدموا موادا أخرى ذات تركيب عضوي غير قابل للحفظ من تأثيرات عوامل الطبيعة، فكانت الرقم مرحلة أساسية في التاريخ البشري كمادة لحفظ كل ما يكتب. لقد تم اكتشاف رقم طيني يعود إلى 2000 سنة قبل الميلاد، وهو عبارة عن فهرست لإحدى المكتبات.

ويشير المؤلف استنادا إلى الحفريات التاريخية، إلى أن السومريين هم أول من سجل حكاية البطل “جلجامش”، ليقوم بتدوينها من بعدهم البابليون، ولتشتهر بأنها إحدى الملاحم الإنسانية الأولى في التاريخ. وعثر الباحثون في بابل على حوالي 6000 رقم، وهو ما جعل العالم الألماني (ر. غولدوي)، يطلق على البابليين لقب “أحباء الكتابة”.

البردي والورق

يعطي المؤلف الأهمية في فصول الكتاب إلى الكتابة والقراءة، غير أنه يتناول الموضوع في علاقته بمادة الكتابة، فيتوقف قليلا عند تاريخ استخدام البرديّ في مصر الفرعونية، وفي أفريقيا، خاصة بلدانها التي تمرّ بها فروع النيل، وتلك التي تتشكل فيها البحيرات الطبيعية.

وكانت مصر في العهود الأخيرة للفراعنة، هي الأشهر في الكتابة على ورق البردي، “قصب البردي” الذي تمت معالجته بوسائل بدائية ليصبح مصقولا ومستويا.

الكتاب يبين العلاقة بين حاجات الحياة وضرورة الكتابة

الورق الذي عرفناه في زمن قريب (عدة قرون)، هو حسب المصادر التاريخية، اكتشاف صيني مبكر، وليست الكتابة هي المحفز لاكتشاف صناعته، لكنها وجدت فيها صديقا حميما لحفظها وتوسيع تداولها، والكتب التي نعرفها اليوم هي مدينة لصناعة الورق التي انتشرت واتسعت في القرون الخمسة الأخيرة. وما نشوء دور نشر الكتب سوى ثمرة لاكتشاف صناعة الورق. فماذا لو بقيت الكتابة في منازلها القديمة، تسكن فوق الطين في الرقم وفوق صفحات البرديّ أو على الحجر وقطع الجلد؟ وهل يمكن تصوّر المستوى الحضاري للبشرية دون سرعة تداول الكتب والوثائق المكتوبة؟ لا قراءة دون كتابة؛ يضمِن المؤلف إحدى فقرات تصديره للكتاب بأقوال ومواقف لعدد من كبار الأدباء والكتاب والشعراء، ينتمون إلى حضارات عدة، يتحدثون فيها عن أهمية الكتابة والكتاب وكذلك القراءة.

فولتير، أحد أكبر رجال الفكر في القرن الثامن عشر، طرح عليه سؤال: من سيقود المجتمع البشري في المستقبل؟

فأجاب: الذين يعرفون كيف يقرؤون ويكتبون.

وفي أهم أعمال سرفانتس “دون كيشوت” تذهب مغامرته في البحث عن العدالة إلى درجة الجنون، بحثا عن الكتاب، وهي التي فعلت فعلها الرهيب في نفس هذا الفارس الأسطوري الذي قدمه سرفانتس إلينا، وليبق علامة في الأدب والفكر. وفي تاريخ الأدب العربي الكثير من النصوص ذات الصلة، ويمكن الإشارة إلى المتنبي في بيت من الشعر ذاع صيته وتردّد على مرّ الزمن: “أعز مكان في الدنى سرج سابح/ وخير جليس في الأنام كتاب”.

الهاجس الثقافي والفكري للمؤلف، يبدو في تناوله لعدد من المقترحات والأفكار التي تخدم توسيع القراءة وتطويرها وتعميقها، حيث يرى أن أحد أكبر عوامل تكريس التأخر في أوجه الحياة العربية، ناشئ عن ضعف وفقر الاهتمام بالكتاب، لدى المؤسسات والمراكز المتخصصة ومن الأفراد. وفي مقاربته لتأثير الكتاب – الكتابة الألكترونية على القارئ والكاتب، أخذ الوجه الإيجابي لهذا التطور التكنولوجي، رغم ما تحمله القراءة في ورق الكتب أو الصحف من متعة وخصوصية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً