ثقافة وفن

أحلام الكتابة بديلا عن قسوة الحياة العراقية الحاضرة

جميل-الشبيبي

في السابع من شهر ديسمبر الماضي مرت الذكرى الثالثة لوفاة الرائد القصصي العراقي محمود عبدالوهاب، الذي ختم برحيله ذاك سيرة حياة جيل كامل من القصاصين العراقيين، الذين أسسوا نمطا جديدا في القصة القصيرة سميت وقتها بقصة الخمسينات، وهو آخر روادها في العراق، بعد عبدالملك نوري وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر ومحمد روزنامجي وغائب طعمة فرمان وغيرهم.
ولد القاص محمود عبدالوهاب في بغداد عام 1929، أكمل دراسته فيها، وله عدد من الإصدارات منها “رائحة الشتاء” و”رغوة السحاب” و”ثريا النص” وكتاب “شعرية العمر”، هذا الأخير صدر عن “دار المدى” (2012)، بعد موته بفترة طويلة، خلافا لرغبته في أن يصدر هذا الكتاب في حياته، والكتاب مجموعة مقالات نشر معظمها في جريدة المدى العراقية.

يتضمن كتاب “شعرية العمر” خبرة سنوات طويلة في القراءة والكتابة الإبداعية ومنغصات الحياة وأفراحها عاشها الكاتب طيلة 82 عاما، معظمها في مدينته البصرة كمواطن أبدي، خارج إغراءات السكن في مدن عربية أو عراقية، مواطن تسكن روحه أصداء أوجاع الآخرين من عامة الناس، ويؤرق جوانحه هذا التخلف الدائم المتخندق في وطنه.

خارج عذابات الذات

من بديهيات حياة القاص محمود عبدالوهاب ولعه الكبير بسرد الطرائف التي تحوّل أحزان الحياة ومنغصاتها إلى فكاهة ومرح مرّ يثير الأسئلة، ويستخف بالأهوال والمنغصات اليومية، وكأنه بذلك يدرأ عن نفسه وأصدقائه وتلاميذه قوّة صدمات الحياة وجبروتها ولامعقوليتها، لكنه لم يستثمر ذلك قط في كتاباته القصصية، التي جاءت جادّة في تفاصيلها وفي أفقها الدلالي، كما أنه استثمر سردا رشيقا، حافلا بالصور والأحاسيس الإنسانية العميقة.

وبهذا المعنى أصبح من أساسيات كتابه “شعرية العمر” تجاوز عثرات الواقع المعيش ومنغصاته الكثيرة، باتجاه نزوع أصيل يمجد بهجة الحياة، ويسبغ عليها فيضا من الأحاسيس والأفراح التي يستقيها من تجربته الخاصة في الكتابة وتجربة مجايليه (جيل الخمسينات)، الذين أسهموا في تعبيد طريق الحداثة في الكتابة الأدبية بالعراق. بما يسميها “الالتماعات الشجاعة، حين يأنس المرء بلحظته دائما، ولا يأسف على ما فات، وسيقتحم ما سيأتي به الغد من دون خشية”.

أيامه الأخيرة عاشها بين بيوت أصدقائه وتلاميذه، الذين احتضنوه وحاولوا التخفيف عنه وهو في عمر حرج

لقد عاش الراحل أيامه الأخيرة في مدينة البصرة بمشقة بالغة، تتحكم فيها متطلبات الحياة: من سكن، لا تتوفر فيه أبسط أشكال الراحة، موزعا بين بيوت أصدقائه وتلاميذه، الذين احتضنوه وحاولوا التخفيف من صعوبات حياته وهو في عمر حرج، ولكنه كان وهو في هذه الحال يكتب “شعرية العمر”، متجاوزا كل المرارات والمصاعب التي يعيشها يوميا، ومتجاوزا كل الخروقات اللاإنسانية التي تحيط بحياة مواطني بلده: الطائفية المقيتة والقتل المجاني اليومي، والفساد المستشري في كل مكان.

لقد كان الحلم في الكتابة بديلا عن الحياة، وبديلا عن الأمل الذي ضاع وسط ضجيج الادّعاءات الفارغة، وأصوات الحروب المدمّرة، والخراب الرهيب الذي حل بالأمكنة الأليفة حتى بدت شواخص عارية من أزمانها، غريبة عن ذاكرة الذين عاشوا تحت أفيائها وظلالها.

للصورة الفوتوغرافية في حياة الراحل محمود عبدالوهاب وسيرته في الكتابة دور مهمّ، فهو يشير إلى أن سطوتها عليه “تكمن في لغتها المرئية: الواقع وزمنه المتحقق داخلها، سطوتها أيضا تأتي من زمنها الكامن الذي يحفر في ذاكرة الرائي لها”، ثم يصف توالي اللحظات في الصورة حين ينشطر الزمن في الصورة والذاكرة إلى “حاضر يمضي وماض يبقى”، ليؤكد أن الصورة تستهويه وتحزنه أحيانا فما “أن يلتقط أحدنا صورته حتى يستحيل زمن الحاضر عند التقاطها زمنا ماضيا يقربه من نهاية النفق”.

وهو يستثمر الصورة تقنية قصصية في قصته الشهيرة “سيرة” التي تبنى على صورة فوتوغرافية لأصدقاء «تنتهي مصائرهم نهايات محزنة»، “وهو” لم يكتف بقصة سيرة بل كتب بعدها رواية «أسميتها سيرة بحجم الكف، آمل أن تنشر قريبا، تعتمد الرواية على صورة فوتوغرافية أيضا للأشخاص والأشياء، يلعب زمن الصورة في الرواية دورا أساسيا».

الشاهد الأخير

من بديهيات حياة محمود عبدالوهاب ولعه بسرد الطرائف التي تحوّل أحزان الحياة ومنغصاتها إلى فكاهة ومرح

يتضمن كتاب “شعرية العمر” التماعات في ذاكرة المبدع الراحل عن الجيل المؤسس للحداثة الأدبية بالعراق في الشعر والقصة بشكل خاص: السياب والبريكان وسعدي يوسف في الشعر وعبدالملك نوري والتكرلي ومهدي عيسى الصقر ومحمود عبدالوهاب ومحمد روزنامجي وغيرهم.

وتحت عنوان “الغجرية التي أحزنتنا ذلك المساء” يسرد حكاية الغجرية التي سألها السياب ذات يوم مداعبا أن «تكشف بالحجر الذي تفرشه على الأرض ستر مصائرنا»، ثم يقول: «وقد أحزنتنا حينما قالت لبدر: تموت صغيرا في أرض غريبة، ولمهدي أراك تحت نجم آخر، ولي ستعيش حياتك بلا رفيقة درب، ولسعدي ستتقاذفك البلاد الغريبة، وتنبأت للبريكان بمصير فاجع».

وفي نهاية مقاله يتساءل: «غالبا ما أتوق إلى لقاء تلك الغجرية أسألها: هل بالإمكان أن يرجع الزمن حقيقة وتعود هي إلى تغيير مواضع أحجارها اللئيمة التي فرشتها على الأرض ذلك المساء، هل بالإمكان؟»، ويضمّ كتاب “شعرية العمر”، إضافة إلى ذلك مجموعة كبيرة من المقالات التي تستعرض خلاصة تجربته في كتابة القصة والرواية وتؤكد سعة ثقافته واطلاعه المتنوع في قراءة التراث العربي والتراث العالمي الذي يجعل من القاصّ محمود عبدالوهاب، ظاهرة ثقافية وموسوعة أدبية محكمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً