الإقليم أو التقسيم
رباح ال جعفر*
بين جرف وناعور وبيدر فتحنا عيوننا في وطن لم نكن نراه أبعد من نخلة على ضفاف نهر. ونَحن نبني قصوراً في الرمال ما تلبث أن تمحوها الريح. وكم عجّت دفاتر الإنشاء ونحن تلاميذ بجفاف ويبايس وموات وريقات التوت والتين عند الخريف.
كنا نقف في الصباحات المدرسية. ننشد ونحن في غاية السعادة: موطني. نرسمه نقطة فوق نقطة. مثل الخضرة في الشجرة. مثل عصفور على سنبلة قمح. مثل وردة في كتاب عشق. مثل جملة موسيقية في مقام ناظم الغزالي. نتكئ على قصيدة للسياب، أو على شجرة نارنج في بستان. علمونا ونحن تلاميذ كيف نرسم خارطة العراق بين شريانين يمتدان في القلب من زاخو إلى الفاو. من الوريد إلى الوريد. وقال لنا معلم التاريخ: إن بلدنا أول من ابتكر القانون، وعلّم البشرية كيف يمسكون قلماً، ويتنفسون هواء الحرية.
اليوم تنتابك مشاعر الغيظ والقهر. تشعر انك غريب في بلدك حين تزور قرية ليست قريتك. تخاف وترتبك، وأنت لا تستطيع أن تحمي نفسك من السؤال القاتل، عن المذهب، والعقيدة، والانتماء الطائفي.
أصبح الحديث عن الإقليم، أو التقسيم موجعاً. حكاية حياة أو موت. حتى كأن لم يبق من أمره سوى استخراج القسّام الشرعي وتوزيع أسهم الإرث على الورثة من المتغانمين. لا أدري بالتحديد كم نسخة تتكرر لدينا في التاريخ من أبي عبد الله الصغير، وكم أندلس ستضيع، وكم ولادة بنت المستكفي سترهن أساورها لدى مراب يهودي؟!
تغيّر الزمن وأصبح الحديث عن المواطنة عزفاً منفرداً. لم يعد الكلام عن الإقليم احتمالاً من الاحتمالات، ولا مفاجأة من المفاجآت، ولا طيفاً من الخيال، ولا وهماً من الأوهام، ولا قصة من قصص الخيال العلمي، ولا ضرباً من المستحيلات، ولا نتيجة من دون مقدمات.
تلتقي بسياسي جاءت به صدفة عمياء وحظ عاثر. يقول لك دون إحساس بالخجل، والدم يقطر من يديه: دعك من حكاية أن هذا الوطن واحد غير قابل للتجزئة. دعك من شعارات ومواويل تختفي وراء أستار من الأكاذيب تتحدث عن الأخوة السمحة، والتعايش، والمصير، والتاريخ، والثوابت، والمشتركات، وطائر الفينيق الذي ينهض من رماده ليحلّق من جديد. البلد مريض وقد لا يعيش طويلاً، والجرح عميق، والخطر قادم، والتعايش لم يعد ممكناً بين أبنائه، والاحتمالات مفتوحة، والخيارات كلها انتحارية: الإقليم، أو التقسيم.
هناك مثل هذا “السياسي” عشرات القرود. ترقص، وتتعرّى، وتعوي، وتتلوّى، ولا يتوقف الرقص، والتعرّي، والعواء، والتلوّي. تذكرت أيام كنا نبني قصوراً وجسوراً وقناطر في الرمال على الأجراف ما تلبث أن نهدمها إذا غابت الشمس، أو تعصف بها هزة من ريح. كم أتمنى أن لا تعدو أماني الساسة الحالمين بتقسيم العراق أكثر من تلك القصور. حين كنا نتلفت وراءنا فلا نرى منها أثراً يبقى إلا السراب. إنها قصور من صنع الأوهام..