اراء و أفكـار

العراق وجيوش المستشارين

محمد هنيد*

قررت الإدارة الأميركية بعد زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي الأخيرة زيادة عدد الخبراء العسكريين أو المستشارين العسكريين. الزيارة غير معلنة أو سرية لخطورة المعطيات والملفات التي قد تتناولها هاته المرحلة التي تأتي سنة 2014 بعد احتلال العراق بربع قرن أي بعد الحرب الأولى 1991 والحرب الثانية 2003. فما معنى جيش من المستشارين وماذا نقصد به؟ وما الفرق بينه وبين الجيوش الأخرى؟

العراق دولة عربية محتلة بشكل مباشر وهو أمر لا ينكره أكثر الملاحظين موضوعية وبعدا عن الطائفية. العراق دولة واجهت منفردة أشرس حروب القرن الماضي والحالي وجُرّبت على أبنائها أبشع أنواع الأسلحة التي خرجت للتو من مصانع الديمقراطية الأميركية. العراق دولة محتلة ينخرها الفساد نخر السوس وتمزق أشلاء أبنائها أحقاد الطائفية المبعوثة من زوايا كهوف التاريخ المظلمة وأغوار الأحقاد التاريخية القديمة. العراق بلد الجرح العربي النازف وبلد الموت البطيء وبلد المفخخات التي لا تخطئ أهدافها. العراق بلد سلمه أبناؤه وإخوتهم من العرب إلى أحفاد رعاة البقر وفيالق ولاية الفقيه الدامية وفرق الموت المعممة وجحافل «المجاهدين» من عمالة مراكز الاستخبارات العالمية.

اليوم يشهد العراق منعطفا حاسما على الأرض حيث يعلن رسميا انتهاء دور القوات القتالية المباشرة التي أنجزت مهمتها النبيلة على الأرض بأن دمرت البلاد ووضعت يدها على كل ثرواته وقتلت أكثر من مليون عراقي وشردت ما يزيد على ثلث السكان. جيوش المستشارين العسكريين والأمنيين عادة تعود إلى الحرب العالمية الثانية عندما فخّخت الولايات المتحدة الأميركية الأجهزة السيادية للدول المنهزمة بعد الحرب بجيوش المستشارين من أجل التحكم في مفاصل الدولة. لكن المسألة في العراق مختلفة بعض الشيء لأن العراق اليوم دولة استنزاف من ناحية وقاعدة عسكرية مفتوحة للإمبراطورية الأميركية من ناحية أخرى. فجيوش المستشارين تأتي كمرحلة جديدة في ترسيخ احتلال العراق من خلال التحكم الكامل في مفاصل الدولة لمدة زمنية طويلة عبر تفخيخ كل مراكز القوى والقرار في الدولة من أجل استنزاف ثرواتها ومنعها من النهوض.

المستشارون العسكريون هم في الحقيقة إطارات وكوادر استخباراتية مهمتها التحكم الحقيقي في القوة العسكرية على الأرض والمكونة أساسا من العراقيين بعد القضاء تقريبا على كل مؤسسات الجيش العراقي الوطني باستثناء بعض جيوب المقاومة هنا وهناك. المستشارون الأمنيون والعسكريون هم الحاكم الحقيقي للعراق في ظل الاحتلال وليست الشخصيات السياسية والنخب التي لا نرى إلا بيادق يحركها المحتل حسب الأدوار والوظائف التي يراها تليق بها. المستشارون الأمنيون والعسكريون هم كتيبة من كتائب الجيوش الجديدة تساندها جيوش من المستشارين الاقتصاديين والمستشارين الثقافيين والمستشارين السياسيين… وكلها قوات هدفها تحقيق نفس الهدف وهو ترسيخ احتلال البلد ونهب ثرواته ومنعه من النهوض والتحرر.

اليوم أصبحت مهمة الغزاة الجدد أسهل بكثير مما كانت عليه خلال الحرب الأولى وخلال الحرب الثانية. فخلال حرب 1991 تم تطبيع الغزو من خلال عزل العراق عن محيطه العربي الإسلامي ووضعه تحت حصار قاتل من أجل فصل الحاضنة الشعبية عن القيادة السياسية وخلق بؤر التوتر والتذمر في مرحلة أولى عبر «برنامج النفط مقابل الغذاء» مثلا ثم خنق الدولة التي كانت تخرج للتوّ من حرب طويلة أنهكت اقتصادها ودمرت بنيتها الاقتصادية تدميرا كبيرا. تمكنت قوات الاحتلال خلال هذه المرحلة من زرع الكثير من العملاء داخل الدولة وفي بنية النظام نفسه من أجل الاستعانة بهم عند الحاجة. أما خلال الحرب الثانية وبعد عملية الاستنزاف الطويلة التي دامت ما يقارب العقد من الزمان فقد عادت قوات الاحتلال مع عملائها الجدد على ظهر الدبابات من أجل إتمام المهمة وإنهاء وجود العراق كدولة مستقلة ذات سيادة الدولة.

إثر ذلك خلقت إمبراطورية رعاة البقر فزاعة «الإرهاب الإسلامي» من خلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشبوهة ودخلت العراق من جديد عبر ذرائع واهية بعد أن قدّم النظام كل التنازلات الممكنة بما فيها أسلحة الدمار الشامل التي من أجلها شُنت الحرب لكن بان بعد ذلك أنها كانت أكذوبة كبرى هدفها السيطرة على ثروات البلد واحتلال أرضه. خلال هذه الحرب القذرة تمكنت قوات الموت الأميركية وكتائب التبشير الديمقراطي من القضاء نهائيا على الجيش العراقي وعلى كل مؤسسات الدولة ومارست لمن يتذكر أبشع أنواع القتل والتعذيب ودمرت معالم أقدم الحضارات البشرية على الأرض.

اليوم تعود هاته القوات بعد أن تمكنت من تفخيخ المنطقة بالمنظمات الإرهابية وزرعت أسباب وجودها على الأرض بالدعوى الزائفة إلى نشر الديمقراطية حينا ومحاربة الإرهاب حينا آخر. لكن ما لا يعلمه الغزاة وبرابرة العصر الجدد هو أن أرض الرافدين كانت عبر تاريخ صخرة تحطمت عليها كل أطماع الإمبراطوريات وأحلام المستبدين من الداخل والخارج وستبقى المقاومة العراقية الوطنية شوكة في حلق العملاء الجدد ومستشاريهم. فلن تنفك المنطقة العربية عن المقاومة وعن الصمود مهما كانت أشكال الغزاة وتجار الدماء ومهما تلونت صور الجيوش وقوات الموت والدمار ومهما تبدلت ألوان المستشارين والجواسيس والعملاء لأنها تدرك جيدا أن المقاومة بكل أشكالها هي الطريق الوحيد نحو طرد لصوص الحضارات وناهبي المتاحف والآثار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً