ثقافة وفن

الشاعر محمد الخالدي: ذهبت إلى بغداد عاشقا ورجعت منها متصوفا

الشاعر-محمد-الخالدي

محمد الخالدي شاعر وروائي ومترجم تونسي، له اهتمام بالتصوف الإسلامي والديانات الشرقية كالبوذية والهندوسية والطاوية، ترجم ديوانه “المرائي والمراقي” إلى الإيطالية،. من مجموعاته الشعرية نذكر “وطن الشاعر” و”من يدل الغريب”، كما نستحضر من رواياته “رحلة السالك” و”سيدة البيت العالي”، هذا إضافة إلى ترجماته العديدة، مثل “قصائد الشبق المعطر” المختارات من الشعر الياباني، و”عظام الحبار” (أبو ظبي 2010).
عن البدايات، أو لنقل تغيير الخطوة الأولى في مسيرة محمد الخالدي شاعرا، يفتتح الشاعر حديثه بجملة لشارل بودلير، كان قد صدر بها مجموعته الشعرية الأبرز “وطن الشاعر”، والتي احتفى فيها خاصة بتيمة الطفولة، ألا وهي “الشعر هو الطفولة عثر عليها ثانية”، فالخالدي يرى في البيئة التي احتضنت طفولته، من تضاريس وجغرافيا، من حيوات وأساطير وحجارة، وحيوانات حتى، حيث بدأ في الافتتان بالشعر منذ قصـائد المحفوظات الأولى والقصائد المغناة.

اللغة وطن

يعتبر الخالدي أن الطفولة محور أساسي في مسيرة أي كاتب، وهي تمثل تيمة مهمة في الأدب الغربي، يذكر مثلا كتاب سارتر “الكلمات” الذي اشتغل فيه على تيمة الطفولة بشكل خاص، لكن هذه التيمة ظلت مهجورة وغير مطروقة في الأدب العربي، رغم وجود بعض الإشارات إليها، لكنها لم تصبح بعد محورية ومركزية في أي مشروع لأي كاتب عربي. لذلك حاول الخالدي الاشتغال على هذه التيمة بشكل مركز في مجموعتيه “وطن الشاعر” و”ما تجلوه الذاكرة ما لا يمحوه النسيان”.

ما يحصل اليوم من صراعات مردها دين أو عقيدة، هو وليد خلط الروحي بالدنيوي والانانية والتخلي عن السمو

ويضيف الشاعر: “اكتشفت من بعد ذلك المدرسة الرمزية اللبنانية، أتذكر منها جيدا أمين نخلة والأخطل الصغير وفؤاد سليمان. هكذا كان دخولي إلى عالم الكتابة مختلفا قليلا عن أقراني، لكنني كنت أؤثر الغنائية في الشعر، طبعا ليست تلك الغنائية بالمعنى الرومانسي. وقد مثلت مجلة الآداب والشعراء الرواد، حينها بالنسبة إلي، حلقة الوصل الأبرز في بلورتي لرؤيتي للكتابة، فتأثرت بما كان ينشر، لأصبح بعد سنوات من ذلك كاتبا ضمنها”.

فالخالدي يرى نفسه يلامس الشعر والكتابة في اللغة بالدرجة الأولى، لذلك هو يحتفي بها احتفاء خاصا، بغاية الانطلاق من جذورها العميقة، محاولة للتجديد فيها وبها، ومن اللغة أصبح الشعر عنده تجربة وجود، وتجربة روحية. لغة الخالدي مشحونة بالجديد المتجذر، إذ يرى أن اهتمامه الكبير باللغة ليس من قبيل الترف، فاللغة في رأيه ليست أداة، إنها غاية في حد ذاتها، لذلك ما زال الشاعر يقيم حواره المتواصل معها، حيث تحولت عنده اللغة إلى وجود ووطن.

جغرافيا الروح

يقر محمد الخالدي أن الهجرة انعطاف مركزي في حياته ومسيرته، حيث كانت هجرته إلى المشرق انعطافة أولى وكبرى، يقول : كان في نيتي أن أقيم في دمشق، لكن اليد الخفية، وهو تعبير أقتبسه من ميخائيل نعيمة في كتابه سبعون، هذه اليد التي لا أدري ما هي أو من هي بالضبط، قادتني إلى بغداد، فيما آثر رفيق رحلتي آن ذاك محمد علي اليوسفي البقاء في دمشق”.

الخالدي احتفى بتيمة الطفولة في مجموعته

يعتبر الشاعر أن هناك نوعين من الجغرافيا، جغرافيا الطبيعة، وجغرافيا الروح، لذلك فإن هجرته إلى المشرق يعدّها إضافة إلى كونها هجرة في المكان، هي هجرة في الحضارة والثقافة والروح. وقد مكث الشاعر 11 عاما في بغداد منذ مطلع السبعينات إلى غاية 1983، حيث تلقى تكوينه الأساسي وتعرف على أسماء كثيرة من رسامين وموسيقيين وكتاب وشعراء، يذكر منهم مثلا سامي المهدي، وسعدي يوسف إثر عودته من الجزائر، والبياتي.

في العراق، بعد 11 عاما، كان لدى الخالدي هاجس يسكنه باكتشاف آفاق أخرى، لذلك قرر أن يتحول إلى بلجيكا، لكن اليد الخفية، وفق تعبيره، مرة أخرى تتدخل وتحول وجهته إلى جينيف.

يقول الشاعر: “تجربة الهجرة ثراء كبير للكاتب والإنسان، وجينيف تجربة لا تقل ثراء عن تجربتي ببغداد، قضيت فيها 10 سنوات. وكان قد ولد عندي في العراق اهتمام بالتصوف، وفي جينيف تعمقت في دراسته، بحكم أنها مدينة تمتلك مكتبة هائلة تخصص قسما كاملا للغات الشرقية، واهتمامي بالتصوف قادني مباشرة إلى البحث في الديانات والفلسفات الشرقية، كالبوذية والهندوسية والطاوية”.

ويضيف الخالدي موضحا معالم التجربة الروحية: “إنها التيارات الكونية والديانات التي تشترك في جذع واحد هو الإنسانية، فما قاله لاو تسو في القرن الـ4 قبل الميلاد، قاله ابن عربي فيما بعد بصيغة أخرى. لكن ما يحصل مثلا اليوم من صراعات مردها دين أو عقيدة، هو وليد خلط الروحي بالدنيوي والتخلي عن السمو للنزول إلى الأنانية في أقصى تجلياتها، وهذا ما يخلق الشقاق والصراع الذي وصل إلى حد دموي مفزع، رغم أن الأصل لم يأت لذلك”.

ورغم أنه ظل يكتب باستمرار، وينشر نصوصا له، لكنه منذ خروجه من بغداد لم يتمكن من نشر كتاب واحد، لذلك مثل الرصيد الهام الذي جمعه طيلة هذه السنوات من نصوص، مادة اكتشف فيها انتظاما ما وفق تيمات مخصوصة، لذلك جاءت كل كتبه من بعد جامعة لنصوص وقصائد لا ينظمها الزمن، بل التيمة والمناخ، ومازال إلى الآن مقيما مشروعه الكتابي على هذا الأساس.

الشعر والرواية

عن الأزمة او القطيعة بين القراء والشعر اليوم، الذي أصبح يروج له على أنه بضاعة كاسدة، يؤكد الخالدي أن ابتعاد القراء عن الشعر أمر واقع، وهو يمثل صورة أخرى للتخلف الذي ينخر المجتمعات العربية، وهو لا يرى أن الأمر يرجع إلى صعوبة الشعر، حيث يضرب مثلا أن “ملارميه” كتب عنه أكثر مما كتب عن نابوليون، رغم صعوبة شعره، شأنه شأن سان جون بيرس.

فعزوف القراء عن الشعر في رأي الشاعر كسل ذهني وفكري ومعرفي، أصاب مختلف شرائح المجتمعات العربية. والشاعر عند محمد الخالدي يكتب نصه ويمضي في طريقه. عن كتابة الشعراء للرواية والقصة، حيث يعتبره البعض مجرد هروب إلى مدار أكثر رواجا، من قبل من هم ليسوا من أبناء هذا الفن. يقول الخالدي: “إن الشاعر هو الأكثر قابلية للتحول من فن إلى آخر؛ من مسرح إلى رواية، أو كتابة سيناريو، أو حتى إلى السينما، أذكر جيدا المخرج السينمائي البارز جون كوكتو وفيلمه “عودة أورفي”، وقد كان شاعرا، ثم إن كبار روائيي العالم هم في الأصل شعراء كبار أيضا.

كتب محمد الخالدي جامعة لنصوص وقصائد لا ينظمها الزمن، بل التيمة والمناخ، وما زال إلى الآن مقيما مشروعه الكتابي على هذا الأساس

أذكر مثلا غي دي موباسان أب القصة القصيرة، كان شاعرا، وإسماعيل كادري، الشاعر القومي الألباني، وميغيل أستورياس، الذي هو في الأصل من أكبر شعراء غواتيمالا، كذلك نيكوس كازانتزاكيس وديفيد هربارت لورنس، وخوليو كورتاثار، وغيرهم كثيرون، كلهم في الأصل شعراء لكنهم مثلوا أبرز رموز الرواية والسرد في العالم على مدى العقود السابقة واللاحقة”.

يضيف الخالدي: “كنت وما زلت قارئا نهما للرواية، فالرواية كانت تراودني منذ بداياتي، كتبت السرد في قصائدي كإشباع لرغبتي في السرد، والسرد في الشعر أمر صعب، لذلك انتقلت إلى كتابة الرواية، وانتقالي هذا كان طبيعيا وسلسا لا تكلف فيه.

ثم إن الفنون متداخلة، ويمكن للشعر أن يجمع مختلف الأساليب والأنماط والفنون، شأنه في ذلك شأن الرواية، لكنهما رغم تداخلهما، أقصد الشعر والرواية، فإن الأول يتميز بالتجريد والثانية تمتلك صفة التفصيل، وهذا ما يعطي كلا منهما حدوده، رغم تداخلهما الواسع، وعندي التجربة السردية والشعرية كلاهما يكمل الآخر، إذ هناك قنوات سرية تصل السرد بالشعر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً