ثقافة وفن

منير بشير: العود في تأملاته

منير بشير

كسر منير بشير (1930- 1997) العود مرتين الأولى عندما حاول أن يُنزل عود والده المعلّق على الحائط، فسقط من يده على الأرض؛ حادثة جعلت الأب يستعيض عن معاقبة طفله بأن يصنع له نسخةً صغيرةً من هذه الآلة الموسيقية. أما المرّة الثانية فكسرَه برحيله عن عالمنا، في مصادفة التقى فيها غيابه وذكرى مولده في يومٍ واحدٍ هو 28 أيلول/ سبتمبر.

لم تتوقف مدينة الموصل العراقية عن تقديم بعض أبنائها إلى العالم كعلاماتٍ فارقةٍ في بحر الموسيقى. ليس أوّلهم إسحق الموصلي وزرياب، كما ليس آخرهم عائلة “بشير” التي قدّمت العديد من الأسماء كان أبرزها منير، الابن الثاني الذي يتوسط شقيقيه، الأكبر جميل والأصغر فكري، إلى جانب شقيقاته الثلاث.

العائلة التي غادرت الموصل متّجهة إلى بغداد عام 1939 من أجل هدفٍ واضحٍ ومحددٍ هو الموسيقى، كان من حسن حظها أن يتزامن ذلك مع وجود العازف محيي الدين حيدر، الذي يعتبر رائد مدرسة العود التقنية، وصاحب الفضل الكبير على منير بشير.

شكّلت الأسطوانات الموسيقية القديمة التي وفّرها والده مصدراً مهماً لإثراء ثقافته الموسيقية وتوسيع آفاقه. فمن خلالها اطلع على الموسيقى السريانية والتركية والفارسية، إضافة إلى التراث المحلي. كما قام منير بتطوير قدراته المعرفية بشكل عام، وبالأخص الثقافة الموسيقية الإنسانية العابرة للحدود، والتي يشكّل الإنسان ـ بغض النظر عن جنسيته وعرقه وقوميته ـ القاسم المشترك الأكبر والأوحد بينها.

يقول في أحد حواراته: “هذه المعرفة الموسيقية العالمية جعلتُها في خدمة التراث. لذلك فأنا أعزف بعودي موسيقى بيزنطية وهندية وإسبانية وموسيقى الجاز، أعزف موسيقى عالمية كلاسيكية وشعبية، وكل هذه المعرفة في خدمة مشروعي الموسيقي الذي يهدف أولاً إلى تحرير الأذن العربية من سطوة الأغنية التافهة، والموسيقى الرخيصة والتهريج والتطبيل والتزمير”.

ووصل الأمر ببشير إلى ثقافة الهنود الحمر فدرس موسيقاهم. لذلك فإن أي مستمع لموسيقاه يستشف روح هذه المعرفة الكبيرة، حتى وإن لم يكن مطلعاً على آرائه في الموسيقى والفن والحياة. أسلوبه في العزف يملي على متلقيه ثقافة الإصغاء لما هو أبعد من نغمة عود. حتى فترات الصمت، أو السكتات، كان يوظفها كنغمةٍ تتلقّفها الأذن بالحساسية ذاتها التي يُحدثها اهتزاز وترٍ نقي، وهو ما ساهم بأن يجعله من العازفين القلائل الذين أعادوا للعود اعتباره، بعد أن كان يلعب أدواراً وظيفيةً مصاحبةً للصوت البشري، أو لأداء بعض القطع المنفردة (الصولو) في أمسيات وحفلات الفرق الموسيقية.

وفعلاً، ارتقى بشير بهذه الآلة إلى مرتبة أكثر أهمية، فجعلها البطل الوحيد على المسرح، وأفسح لها منبراً مرموقاً لتقدّم نفسها بكل ما تملكه من طاقة، وهذا الأمر لم يفعله إلاّ عازفون قلائل في العالم العربي، منهم محي الدين حيدر (المعلم الأول) وجميل بشير، وسلمان شكر.

في حديثٍ عن ارتجالاته الشهيرة، تقول الفنانة هدى عصفور: “استطاع بشير، من خلال الارتجال، إبراز مهاراته كموسيقي متمرّس وإتقانه ومعرفته بسكك المقامات الشرقية. ولم يكتفِ بهذا، بل استطاع المزج بين التوجه الشرقي “المقامي” للارتجال والتوجه المتأثّر ببعض ملامح الموسيقى الغربية”.

ارتقى منير بشير بآلة العود ومنحها تفرّدها على المسرح

كان جريئاً للغاية، عبر الصحافة واللقاءات الإذاعية والتلفزيونية والمحاضرات، في تصدّيه لأساليب الملحّنين العرب في القرن العشرين، المصريين واللبنانيين والعراقيين، الذين ابتعدوا ـ برأيه ـ عن الهوية القومية للموسيقى العربية، جرّاء استعارة أساليب الغرب شكلاً وبنيةً وتعبيراً. فحتى الموسيقار محمد عبد الوهاب لم يسلم من انتقاداته الحادة، واتهمه بسرقة العديد من القطع الموسيقية الغربية واستخدامها في مؤلفاته، مستغلاً ـ كما يرى بشير ـ جهل الجمهور العربي بالموسيقى العالمية آنذاك.

في كتاب مذكراته “موسيقى الحكمة”، تحدّث بشير عن تجربته في بيروت وعلاقته بالأخوين رحباني والسيدة فيروز، فكتب يقول: “هناك بدأ اسمي يلمع ويتألّق، فعقدتُ صداقاتٍ حميمةً مع الفنانين اللبنانيين، وأخص بالذكر الرحابنة وفيروز، لكنني في الوقت ذاته أطلقتُ شعار العودة إلى الموسيقى العربية، ونبّهتُ العاملين في الوسط الموسيقي إلى ضرورة العمل على ترسيخ التراث الموسيقي، والابتعاد عن الموسيقى الغربية الدخيلة. واستمرت حملتي لصيانة التراث الموسيقي وبعثه من جديدٍ في قالب حديث، مدة ستة أشهر، كنت أكتب خلالها في الصحف والمجلات، وأجري نقاشاتٍ طويلة في النوادي والمحافل الاجتماعية، ومنها مجلة “الأحد” وحوارات مع الصحافي محمد رسلان. من هنا بدأت تتكون شخصيتي”.

سجّل بشير آنذاك عدة مقطوعات في “إذاعة الشرق الأدنى”، وكانت السيدة فيروز في بداية مشوارها، فتعاون معها ومع الرحابنة في تسجيل بعض المقطوعات، منها “يا حلو يا قمر” و”هيك مشق الزعرورة”. وبحسب قوله: “لأول مرة في العالم العربي كان العود يحتل مكانته في الغناء فيقال: فيروز مع عود منير بشير”.

ولم يقتصر عمل بشير على تأليف الموسيقى الآلية فحسب، بل عَمِل في التلحين الغنائي أيضاً. بعد رحيله، صدر له ألبوم بعنوان “رباعي منير بشير” (عام 2000)، يضم ثماني قصائد لعمر الخيام وواحدة لابن زيدون. أنشدت هذه القصائد الفنانة اللبنانية نونا الهنا (1935)، التي حمل صوتها الشعر والألحان معاً بأداءٍ لافتٍ، لم يقاومْ غواية الحكمة لدى الخيام، وجرأة اللحن لدى بشير الذي ظلّ مهجوساً بتطوير التراث الموسيقي العربي.

تعد أسطوانة “رحلة مع العود حول العالم العربي” من أشهر أعماله، وتتضمن 18 قطعة بين أغانٍ شعبية من التراث الشرقي، ومقطوعاتٍ موسيقية من تأليفه، وأخرى من الموسيقى الغربية الخفيفة.
– See more at: http://www.alaraby.co.uk/culture/2b2bf2ef-6279-4e61-801f-4d8b7459f445#sthash.Emn34sQw.dpuf

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً