اراء و أفكـار

أمريكا تمتطي «داعش» ولا توفر إيبولا

بشار عمر الجوباسي*

لا تزال الضبابية تطغى على آليات عمل وخطط الحلف العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش»، وحتى مؤتمر باريس لم يزده إلا غموضاً؛ أبرز ما يغيب عنه جدول زمني محدد لعملياته العســـكرية.

ولكن هل الولايات المتحدة جادة هذه المـــرة في محــاربة «داعش» واستئصالها من العراق وسوريا، أم أن الأمر لا يعدو تعقيباً على أحداث تجـــري في منطـــقة تحتاج لإثبات وجودها الدائم فيها، ومشاركة جزئية تقتضيها مكانتـــها العالمـــية؟ استغلت الولايات المتحدة مسألة الحرب على «داعـــش» لتعود وتتصـــدر ساحة الأحداث العالمية، ولتقود حلفا يضم أكبر دول العـــالم، ولا تمـــلك باقي الدول إلا أن تؤيده، كـــذلك عـــادت إلى العـــراق عســـكرياً بدون الحـــاجة لقرار من مجلـــس الأمـــن، نظراً لطلب الحكومـــة العراقية مساعدتها في هذه الحرب؛ هذا الحلف العــــالمي الذي ما يـــزال محتاراً ومتخبطاً في مواجهة «داعــش»، التي يتراوح عدد مقاتليـــها بين الثلاثيــن والأربعين ألفاً- حسب تقارير المخابرات الأمريكية – فهل تستلزم محاربتها كل تلك القوى وكل أولئك الحلفاء؟ لا شكّ أنّ امريكا لديها احتياجات لوجستية، أما عبارة مساعدات عسكرية، التي تفكر في عدم تقديمها هذه الدولة أو تلك، فتعطي المسألة حجما أكبر بكثير من حجمها المنطقي.
الأمر متخم بقدر كبير النفاق الأمريكي المعهود، ولا تتعدى حقيقة الأمر إلا كونها كذبة جديدة من مسلسل الكذب الأمريكي الغربي، الذي لا نملك إلا تصديقه، يؤكده تصريح الرئيس الفرنسي مؤخرا، بعدم مشاركة بلاده بأي عمليات عسكرية ضد «داعش» خارج العراق، فإلى أي مستوى انحدر ساسة الغرب.
موافقة الكونغرس الأمريكي على تدريب وتسليح المعارضة السورية «المعتدلة» لمحاربة «داعش» التي تتطلب عاما حسب تقديراتهم، يمدّ من جديد في عمر نظام الأسد لأعوام، فالأولوية الآن لمحاربة «داعش»، لذلك يجب أن لا يُقرأ قرار الكونغرس هذا أبداً على أنّه خطوة باتجاه الإطاحة بالنظام السوري.
الحرب على تنظيم «داعش» يجب أن تبدأ بإزالة الأسباب التي أدت إلى تمدده واستفحاله، بغض النظر عن كيف تمّ ذلك التمدد ومن سَهّله، أما ما يجري العمل عليه الآن فلن يؤدي إلا لمزيد من الكراهية والكبت، اللذين ينموان ويثمر فيهما الإرهاب، فهل تخفى عنهم هذه البديهيات ليعملوا عكسها تماماً؟ فتراهم يتحالفون مع النظام العراقي، في وقت لا تزال المليشيات الشيعية نفسها، التي تدعمها الحكومة العراقية، تحارب «داعش» وترتكب مجازر بحق السنة.
ويستمرون بغض الطرف عن إرهاب النظام السوري وهم إن استبعدوه من المشاركه في حربهم فلن يضره هذا بشيء، بل على العكس يمكن أن يكون أكبر مستفيد منها فقد يتحرك بدباباته ومدرعاته ويحتل الأرض التي أخلتها «داعش» بعـــد الضربات الجـــوية لمناطـــق سيطرتها، سواء بوجــود تنســـيق مع الغــرب أو عدمه، فلا يوجد على الأرض السورية قوة أكبر من قوته، لن يضره أي شيء طالما أنّ هناك إرادة دولية لا تسمح بانتصار المعارضة السورية، وترغب ببقاء النظام واستمرار الوضع على ما هو عليه لأجل غير مسمى.
فما جرى في غزة من صمود وقدرة غير متوقعة على مواجهة الصهاينة وكذلك ضرب عمق الأراضي المحتلة، وما يحمله هذا من إمكانية حتمية للمزيد من التطور النوعي في المستقبل، وتوصُّل المقاومة إلى قدرات أكبر وأكبر؛ كل هذا يجعل إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة في غنى عن وصول نظام جديد إلى الحكم في سورية، لن يقدر سريعاً أو ربما على الإطلاق، على حماية حدود إسرائيل، ولا أحد ينتبه إلى ما سيحدث مثلاً لو تمكنت مجموعة من تدمير منشآت ضخ المياه الإسرائيلية على بحيرة طبرية، وظلّت تعطل الوصول إليها؛ هناك نقاط ضعف صغيرة تدمر أعظم وأكبر ناطحات السحاب.
من البديهي القول إن السيناريو المقبل حول سوريا يتعلق بما ترغب الولايات المتحدة حدوثه فيها، فوصول أغلب الجهاديين إلى سوريا، الذين انضم معظمهم إلى «داعش» كان عبر تركيا التي غضّت الطرف عنهم، ربما بأوامر أمريكية؛ فإذا أرادت الولايات المتحدة تقسيم سورية والعراق فلن تقوم باحتلالهما ثم تقسيمهما علنياً أمام أنظار العالم، كما كان يجري في مطلع القرن الماضي، لا بدّ أنّها إذ ذاك ستقوم بتكريس الفوضى والحرب؛ فالتقسيم في كل دول العالم دائماً ما أتى عقب حرب بين الأطراف التي أفضى إليها التقسيم؛ لذلك تضع نفسها والجميع أمام عدو يقهر الكل ولا يُراد له أن يُقهر، ثم تترك الأمور لتسير لوحدها فتنشأ الدول الموعودة نتيجة استمرار الاقتتال المسرحي منه والحقيقي، لنفيق يوماً ما على واقع لا نجد بداً من تقبلّه، فهل سيكون تقدّم البيشمركة المدعومة أمريكياً وأوروبياً في ملاحقة فلول «داعش» حتى آخر معاقلها، أم إنّه سيتوقف بعد بضعة كيلومترات من الحدود الآمنة ما وراء حدود كردستان الموعودة؟ سوريا والعراق الآن خارج سايكس بيكوو تسيطر «داعش» على أغلب المنطقة المخصصة للدولة السنية، حسب الخريطة المنشورة في «نيوريوك تايمز» الصيف الماضي، ويترك للحكومة العراقية السيطرة على منطقة الدولة الشيعية، في حين يسيطر النظام السوري على المنطقة المخصصة للدولة العلوية، أما الدولة الكردية فهي الآن أمر واقع في العراق، يؤكده سماح الأمريكيين لها ببيع النفط عبر تركيا إلى إسرائيل بدون الرجوع إلى الحكومة المركزية في بغداد، والجميع لا يزال يغض بصره عن تلك الحقائق، ولا يحتاج الأمر غير القليل من التوافق بين دول المنطقة، التي ترك لها الأمريكيون بعض الأدوار في إذكاء الصراع فيها، سواء أكان بالمال أو غيره، لينهي هذا التوافق الجزء الأكبر من الأزمة في حدود ما وصلت إليه، وقد بــدأت أولى بوادر هذا التوافق برجوع سعد الحـــريري إلى لبنان وعودته تلك ما كانت لتكون لولا ضوء أخضر من حزب الله، أتى إثر كبسة زر في طهران بناء على توافق سعودي إيراني، عقب أحداث عرسال التي تسببت «داعش» بها، هذا «الغولدشتاين الداعشي» لا يزال يعطيه الجميع أكبر من حجمه الحقيقي، فهو لا تملك أدنى حاضنة شعبية، يحتل الأراضي ويسرق البنوك والنفط ليشتري ولاءات بعض عناصره المحليين، أما أغلبهم فقد أعماهم التعصب ولا يجد نفسه خارج صفوفه؛ يحتاج «داعش» للتغاضي عنهم للاستمرار في الوجود فكيف لبضعة آلاف من عناصره أن يناوروا ويتحركوا ويحتلوا ثلث أراضي سورية والعراق، على كل حال مهما كانت حقيقة الأمر فقد وصل «داعش» إلى نهايته، ولن يُسمح له بالتقدّم أكثر.
أما جدية الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب فهي تبقى كالعادة منقوصة، فأمريكا لم توفر حتى وباء إيبولا الذي يجتاح افريقيا، فقد قرر أوباما إنشاء عدد من النقاط الطبية في غرب افريقيا ولم ينس إرسال ثلاثة آلاف جندي أمريكي إلى هناك، فهذه أيضاً حرب عالمية على إيبولا، تحتاج الولايات المتحدة دائماً لأمثال «داعش» لزعزعة الاستقرار من ثم التدخل في منطقة ما، وكذلك لتوجيه أنظار شعبها عن بعض قضاياه المحلية التي يضطر لتجاهلها والوقوف خلف حكومته في حربها على أعداءٍ تفصله عنهم عشرات آلاف الكيلومترات، يبقى مصطلح إرهاب كلمة فضفاضة تفسر على مقاس مصالح الغرب؛ فماذا يمكن أن نسمي ما يقترفه النظامان السوري والعراقي بحق شعبيهما وكذلك حزب الله والمليشيات الشيعية في سوريا وأيضاً العراق أليس ذلك إرهاباً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً