اراء و أفكـار

هل يمكن تفادي تفكيك العراق؟

 عثمان ميرغني*

إذا سارت الأمور على المنوال الذي نراه اليوم، فإن العراق بشكله الذي عرفناه به لن يبقى طويلا. هناك مؤشرات قوية على أن الأمر لم يعد مجرد كلام للتخويف، أو من قبيل المبالغة، أو لتكرار الأحاديث القديمة عن نظرية المؤامرة.

فالواقع على الأرض يرسخ الانقسام الشيعي – السني – الكردي، والتشرذم السياسي يزيد من حالة العجز والتخبط، بينما العنف المستمر يغذي الاحتقان وروح التشفي والانتقام. دخول «داعش» على الصورة زادها تعقيدا وأعطى البعض مسوغا إضافيا للدفع بطروحات التقسيم إلى الواجهة.
المحزن أن الكلام عن تقسيم العراق ليس جديدا، لكن لم يتخذ من السياسات ما يعطي البلد مناعة ضد حدوثه، بل بقي الأمر يغلي تحت السطح بسبب ممارسات سياسية جانحة داخل العراق، وتدخلات إقليمية ودولية، إضافة إلى الخلافات السياسية العربية التي أحدثت حالة غير مسبوقة من العجز والإحباط في المنطقة. المؤامرات الخارجية موجودة ولا يمكن لعاقل أن ينفي وجودها، لكن المسؤولية تقع دائما على الدول المتضررة أو المستهدفة لتحصين نفسها وشعوبها ضد هذه المخاطر والتدخلات بتعزيز وحدتها الوطنية، ليس بالشعارات بل بالسياسات التي تضع المواطن والمواطنة فوق أهواء السياسة واعتبارات التمسك الأبدي بكرسي الحكم.
لقد كان معروفا منذ أزيد على 40 عاما، أن هناك أطرافا تروِّج لتقسيم العراق. وكتب الكثير عن مشروع هنري كيسنجر الذي يعود إلى النصف الأول من سبعينات القرن الماضي لتقسيم العراق ودول عربية أخرى لوضع خريطة جديدة للمنطقة على أسس عرقية وطائفية. كما جرى الحديث في الثمانينات والتسعينات عن مشاريع أميركية وإسرائيلية لتقسيم العراق إلى أقاليم سنية وشيعية وكردية، أعقبه في بداية الألفية الجديدة وتحديدا خلال السنوات التي سبقت ثم أعقبت الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 حديث في العلن لليمين الأميركي والدوائر المؤيدة لإسرائيل عن التقسيم.
من بين المشاريع المثيرة للجدل كان القرار الذي تبناه مجلس الشيوخ الأميركي في سبتمبر (أيلول) عام 2007 لتقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات كحل للأزمة التي تفاقمت بعد الغزو وقادت إلى حرب أهلية طائفية. اللافت أن مشروع ذلك القرار تبناه وقدمه للتصويت جو بايدن الذي كان وقتها رئيسا للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. وقد عاد بايدن أخيرا من موقعه كنائب للرئيس الأميركي إلى طرح مشروع التقسيم الفيدرالي كحل للأزمة العراقية تحت عنوان «حل الدول الثلاث» خصوصا بعد دخول «الدولة الإسلامية» الغامضة على الخط.
بغض النظر عن نظرية المؤامرة فإن الكلام القديم عن التقسيم كان يفترض أن يشحذ همم العراقيين قبل غيرهم لتمتين وضعهم الداخلي ببناء وحدة وطنية حقيقية، وهوية جامعة لكل مكونات المجتمع وأطيافه، والاعتراف بحقوق كل هذه المكونات وفتح أبواب المشاركة في السلطة وتقاسم الموارد، بما يرسخ حقوق المواطنة وروح الانتماء للوطن. المشكلة أن كل الأنظمة التي تعاقبت على العراق تعتبر مسؤولة بشكل أو بآخر عما آلت إليه الأوضاع اليوم، بما في ذلك نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي يقول البعض اليوم إنه لو بقي حاكما لما كان العراق على حافة التفتت. الذين يقولون بهذا يغضون الطرف عن أن الكثير من سياسات القمع التي مورست ضد الجميع بلا استثناء لكن بشكل خاص وأكثر دموية ضد الأكراد ثم ضد الشيعة عقب «انتفاضة» 1991، أججت الأوضاع وزادت من الاحتقان وأسهمت في تراكم العوامل المؤدية إلى التفتت لا التوحد، مثلما أن الصمت العربي تجاه المذابح والتجاوزات التي حدثت، غذى مشاعر الغبن.
نوري المالكي أضاع كذلك فرصة كبرى لبناء عراق جديد يحترم التنوع وحقوق كل المكونات، ويسمو عن الحسابات الطائفية الضيقة والثارات القديمة، فانغمس في صراعات السلطة والتسلط، ودخل في تجاذب مع الأكراد، وتجاهل مظالم وشكاوى السنة العرب. النتيجة لم تكن إضعاف العراق وإدخاله في صراعات داخلية استنفدت كل طاقاته فحسب، بل فتحت الأبواب أمام المتطرفين من كل حدب وصوب، ووضعت البلد أمام حافة التفكك والتقسيم.
العراق يحتاج إلى معجزة تجعل كل الأطراف المعنية داخليا وخارجيا تدرك أن التقسيم لن يعني بالضرورة الاستقرار ونهاية الاحتراب، خصوصا في الظروف الراهنة. لكن بما أن الرجوع إلى الصيغة الماضية بكل عاهاتها يبدو صعبا إن لم يكن مستحيلا فإن العراقيين يحتاجون إلى مؤتمر قومي جامع يبحثون فيه أزمتهم بصدق وشفافية، ويتفقون على صيغة بالتراضي ودستور جديد لا يقنن الطائفية بل يؤمّن الحقوق للجميع من منطلق المواطنة والتكافؤ. البديل لذلك هو الاستعداد للتقسيم بكل ما يعنيه من مشكلات وقلاقل داخلية وإقليمية. مفتاح الحل والعقد سيكون هذه المرة بيد الأكراد، فهم رمانة الميزان في هذا الوضع المعقد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً