اراء و أفكـار

عراق ما بعد المالكي . . أي مستقبل؟

د . محمد السعيد إدريس

على الرغم من اضطرار نوري المالكي رئيس حكومة العراق المنتهية ولايته للتنحي عن فرض نفسه رئيساً للحكومة العراقية للمرة الثالثة بعد تزايد الضغوط الداخلية والخارجية عليه وتخلي معظم حلفائه عنه فإن مستقبل العراق يبقى غامضاً.

والأسئلة التي مازالت صعبة الإجابة هي الأخرى ليست فقط كثيرة بل إنها تتزايد في ظل مجموعة من القضايا المهمة التي يحرص كثيرون على تجنب الخوض في معتركاتها .
أولى هذه القضايا تتعلق بسوء تشخيص الأزمة العراقية، وانسياق الكثيرين، وخصوصاً في الإعلام العربي، وراء أكذوبة شخصنة الأزمة في العراق، فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، وحتى قبل الشروع في التوجه نحو إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة جرى التركيز على شخص نوري المالكي ودوره الشيطاني في تعظيم أزمات العراق، بل اتهم الرجل أنه المسؤول الأول عن كل أزمات العراق بسوء انحيازاته الطائفية في الداخل وبسوء تحالفاته العربية (مع النظام السوري) والإقليمية (مع إيران) في الخارج، قد تكون هذه الاتهامات صحيحة، وربما يكون نوري المالكي قد تسبب فيما هو أفدح وما هو أسوأ بالنسبة للعراق، لكن الحقيقة تختلف كثيراً عن ذلك .
الحقيقة أن العراق يعيش منذ مارس/آذار 2003 تداعيات أزمة احتلاله بعد غزوه أمريكياً وبريطانياً . كان القرار الذي اتخذ وباستحسان وتشفي إيران هو تدمير العراق وليس إسقاط النظام، تدميره كي لا يبقى قادراً على تهديد أحد: لا “إسرائيل” ولا إيران ولا العرب، فإذا بهذا التدمير يعيد العراق مجدداً مصدراً لتهديد كل هذه الأطراف مرة أخرى وربما أسوأ من السابق ولكن بضعفه وليس بقوته . فالعراق المدمر والضعيف أضحى مصدراً للخطر وللتهديد لكل من أرادوا التخلص منه، فهو الآن بؤرة استقطاب غير مسبوقة لكل أشرار الأرض من إرهابيي العالم عرباً وعجماً ومن كل الجنسيات جاءوا ليقيموا في العراق نواة “خلافة إسلامية شيطانية” من وحي تخريفاتهم أو بإملاء من صنعوهم وممولوهم وأشرفوا على تدريبهم وألقوا بهم في العراق وفي سوريا لينتشر الوباء في كافة أرجاء أرض العرب ويمتد الخطر إلى الجوار الإقليمي الذي لم يعد بمنأى عن تداعياته وأخطاره . العراق الذي جرى تدميره، والقوانين التي وضعت لهذا العراق، والدستور الذي وصفوه بالجديد، والطبقة الحاكمة الجديدة وبواقع التقسيم الفعلي العرقي والطائفي (شيعي – سني – كردي) والحليف الدولي الأمريكي راعي تفكيك الوطن العراقي وصاحب الفضل الأول في تدمير جيشه ومصادر قوته هو معمل تفريخ أزمات العراق واختفاء نوري المالكي عن المنافسة على منصب رئاسة الحكومة، أو حتى عن الحياة السياسية كلية، بل وخروجه تماماً من العراق، لن يحل أزمات العراق، كما يتوقع كثيرون، أو كما يروج كثيرون فالمعادلة لم تتغير كثيراً .
فالعراق يضم الآن ثلاث قوى سياسية أساسية فاعلة تجسد واقع التقسيم العرقي – الطائفي للبلد: حزب الدعوة الذي جاء منه نوري المالكي في السابق، وجاء منه الآن حيدر العبادي رئيس الحكومة المرشح، وتنظيم “داعش” الذي يفرض نفسه كقوة أمر واقع سنية، وكنواة لمشروع التقسيم، ليس فقط في العراق، بل في العراق وسوريا لإقامة “نواة” دولة “الخلافة الإسلامية”، وأخيراً تقف حكومة إقليم كردستان العراق ورئيس هذا الإقليم مسعود برزاني الذي كان قد أوغل في عدائه لشخص نوري المالكي خلال الأشهر القليلة الماضية لتبرير مشروع الانفصال وإقامة الدولة الكردية الكبرى على أرض العراق وسوريا، أو بتحديد أدق “الدولة الكردية شبه الكبرى” بدعم ومباركة أمريكية – “إسرائيلية” وضوء أخضر من حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا في صفقة تضمن لرجب طيب أردوغان زعيم هذا الحزب فرصة الفوز المريح برئاسة الجمهورية في تركيا .
معادلة الصراع في الداخل مازالت على ما هي عليه وستبقى على ما هي عليه لفترة طويلة، وفي ذات الوقت تبقى معادلة التوازن الخارجية هي الأخرى كما هي من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وطالما بقيت كل من واشنطن وطهران على رهانهما بتحسن العلاقات الثنائية وطموحهما بحل سلمي – سياسي لأزمة برنامج إيران النووي ستبقى التفاهمات الإيرانية – الأمريكية بالعراق على ما هي عليه ما يعني أن اختفاء المالكي ربما يساعد على تشكيل حكومة جديدة، وإكمال مهام الاستحقاقات الدستورية، لكنه لن يؤدي إلى إيجاد حلول حقيقية للأزمات المحورية المستحكمة بالعراق طالما بقي العراق محكوماً بالدولة التي فرضها الاحتلال، وبالمشروع السياسي – الاستراتيجي الذي دفع أمريكا لاحتلال العراق، وبقاء الطبقة السياسية التي فرضها الاحتلال على العراق بكل ما يعنيه بقاء هذه الطبقة من مصالح ونفوذ وسلطة وفساد، لكن ما هو أهم هو ما يعنيه بقاء هذه الطبقة من عداء شديد مصلحي وسياسي للمشروع الوطني الغادر على إنقاذ العراق، لسبب بسيط ودقيق هو أن هذا المشروع يعني ضمن ما يعني حتمية تغييب هذه الطبقة نهائياً عن مقاليد الحكم والسلطة في العراق .
ثانية هذه القضايا المهمة التي تحول دون انفتاح آفاق مستقبل واعد للعراق باختفاء نوري المالكي سياسياً وتنحيه عن منصب رئاسة الحكومة قضية “داعش” ومكانها ضمن المشروع الأمريكي الجديد للشرق الأوسط .
ودون الدخول في الزوبعة التي أثيرت حول ما احتواه الكتاب الذي أصدرته هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بعنوان: “خيارات صعبة” بخصوص مسؤولية الولايات المتحدة عن تأسيس تنظيم “داعش”، فإن الشيء الذي يصعب إنكاره ما ورد على لسان الرئيس الأمريكي باراك أوباما في حواره مع الكاتب الأمريكي الشهير في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان مؤخراً، فقد ذكر فريدمان أن أوباما تحدث عن آفاق نظام جديد للشرق الأوسط يفرض نفسه على أنقاص نظام معاهدة “سايكس – بيكو” لعام 1916 التي قسمت الوطن العربي وبالذات المشرق العربي والهلال الخصيب .
كلام أوباما كان يرتكز على تحليل للأدوار التي تقوم بها الآن المنظمات “الجهادية” التكفيرية في حروبها داخل العديد من الدول العربية ومردودها التقسيمي المحتمل للدول العربية، وهذا يعيدنا إلى تذكر الشعار الذي حمله مشروع الاحتلال الأمريكي للعراق وهو “إعادة ترسيم الخرائط السياسية بالمنطقة” من أجل التأسيس لنظام إقليمي بديل للنظام العربي القائم هو النظام الإقليمي للشرق الأوسط الكبير الذي يمتد من غرب الصين شرقاً إلى الحدود الشرقية للمحيط الأطلسي غرباً، ومن جنوب روسيا وتركيا شمالاً وحتى منابع النيل جنوباً، وهي المساحة المتسعة التي تضم دول “العالم الإسلامي” باستثناءات محدودة، نظام يقوم على أساس تفكيك الدول القائمة على قواعد تقسيم طائفي – عرقي .
توماس فريدمان نفسه “اليهودي الصهيوني من أصل روسي” سبق أن أعطى المبرر السسيولوجي لهذه الدعوة التقسيمية للدول العربية وبضرورة إسقاط نظام معاهدة “سايكس – بيكو” البريطاني – الفرنسي . ففي معرض دعوته لإعادة تقسيم الدول العربية وإسقاط حدود “سايكس – بيكو” أرجع فريدمان الدافع الأساسي وراء توجه من أسماهم بإرهابيي “القاعدة” لشن هجمات 11 سبتمبر 2001 على واشنطن ونيويورك إلى “الدولة الفاشلة” التي “فرخت هؤلاء الإرهابيين” وليس العداء العربي للولايات المتحدة لانحيازها ودعمها المفرط ل “إسرائيل” .
انحياز أوباما وانجراره وراء فكرة توظيف الحرب الإرهابية الدائرة الآن في العديد من الدول العربية سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا أو اليمن وربما مصر لإنجاح مخطط إعادة التقسيم ظهر واضحاً في تمنعه عن الاستجابة لمطالب نوري المالكي بالتدخل عسكرياً ضد معركة “داعش” عندما اجتاحت محافظات عراقية مهمة، لكن تدخل فقط وبشكل غير حاسم وبالطائرات الأمريكية من دون طيار عندما امتد خطر “داعش” إلى إقليم كردستان العراق، ما يفهم منه أنه تطور خارج المعادلة المتفاهم عليها والتي تبقى حدود “داعش” في المناطق السنية دون غيرها سواء في العراق أو سوريا .
وقد حسم أوباما هذا التوجه في حديثه عن نجاحات طائراته ضد قوات “داعش” في جبل سنجار ومناطق كردستان العراق بقوله: “إن الغارات الجوية ضد عناصر التنظيم المتشدد ستتواصل طالما استمروا في تهديد مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان، وإذا ما هدد هؤلاء الموظفين الأمريكيين والمنشآت الأمريكية في المنطقة”، هذه هي محظورات “داعش” عند أوباما، وغيرها مستباح وهذه هي قواعد اللعبة الأمريكية الجديدة في المنطقة .
– See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/15b0a176-de3d-42f0-9435-4e9abb2fbc9f#sthash.Y9IUzFhz.dpuf

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً