اراء و أفكـار

أي بديل للمالكي لن يمارس الدور الإيراني بطريقته

عبدالوهاب بدرخان*

قبل أن يصبح تخل ربما من حزب الدعوة أيضًل، اعتقد الرجل أنه لا يزال قادرًل على الاحتفاظ بموقعه من خلال تهديد مَن يُفترض أنهم “شركاؤه” في الوطن كثيرون التقطوا.

مستنكرين ومستهجنن، عبارة “أبواب الجحيم” التي توعّد بأنها ستُفتح في حال خلعه من رئاسة الوزراء. وبذلك برهن المالكي بأنه ليس نسخة من صدّام حسن فحسب، بل أسوأ منه، باعتبار أن الظروف تغيّرت وأن امآسي التي عاشها العراق ولا يزال منذ الغزو الأميركي إنما كانت الثمن الذي يجب دفعه من أجل الحصول على “نظام ديمقراطي” يحترم حقوق
جميع مكوّنات المجتمع.

وفي وثيقة الشروط التي قدّمها لقاء التنحي كان واضحًا أنه يعني ب “أبواب الجحيم” ما يقوله. ذاك أن خلفية الشروط نفسها تؤكد عمليًا كل الانتقادات والمآخذ للمالكي بأنه استحوذ على الدولة والجيش، الدولة بالسيطرة على القرار المالي والعدلي، والجيش بإدارته شخصيًا الشؤون العسكرية والأمنية والاستخبارية، بما فيها خصوصًا السهر على تصفية خصومه السياسين وتلفيق الاتهامات لهم وإصدار الأوامر للقضاة الذين خيّرهم بن إطاعته أو قذفهم إلى مقصلة “اجتثاث البعث”. فالمالكي طلب قبل كل شيء أن يكون رئيس الوزراء المقبل من حزبه، وبالتالي ستكون له كلمة في اختياره، بل سيحرص على أن يكون دمية يحرّك هو خيوطها، ثم اشترط تعهدًا مكتوبًا بعدم الملاحقة القانونية، ومنحه منصبًا رئاسيًا، نائب للرئيس مثلاً) أو تفصيل منصب خاص مستحدث له شخصيًا، بالإضافة إلى جيش صغير بمثابة حراسة ومرافقة، فضلا عن احتفاظه بالعقارات التي استولى عليها داخل “امنطقة الخضراء”.

أن يرفع امالكي ثمن تنحّيه لا يعني أنه سينال كل ما طلب، فثمة تداول واسع إمكان أن يرحل ليعيش في الخارج، وطاما أنه ليست هناك بلدان كثيرة مستعدّة لاستقباله فإنه سيختار إيران كمنفى آمن. لكن شروطه بدت موجّهة إلى إيران كطرف أساسي في إدارة الحكم العراقي، قبل أن تكون موجّهة إلى الأطراف السياسية الأخرى. ماذا إيران؟ أنه كان يحكم باسمها وبإرشاداتها وينفذ ما يخدم خططها الإقليمية، أي أنه يعرف الكثير ولديه ما يتوجب التكتم عليه. صحيح أنه ليس من النوع الذي يتعجّل لكشف الأسرار إلا أن احتمال خذلانه من جانب إيران وخسارته موقعه ودوره ونفوذه يدفعانه إلى المطالبة بثمن صمته. ما لم (ولا يريد أن) يفهمه هو أنه أخطأ وفشل ولا يمكن حتى إيران أن تتمسك به. فقواعد اللعبة تفيد بأنه حتى لو كانت إيران هي التي دفعته إلى الخيارات الخاطئة فإنه وحده من يتحمّل المسؤولية. والواقع أن ما حصل في العراق كان بمثابة زلزال بالنسبة إلى السياسة الإيرانية التي كانت تتحكّم بكل الخيوط في العراق وسوريا ولبنان، وكانت تستخدم بشكل مباشر أو غير مباشر أطرافًا عدة غير شيعية بما فيها تنظيم “داعش”.

كان أحد جوانب الخطة أن تركز بروباغندا الأنظمة الإيرانية والعراقية والسورية على إظهار المناطق والمجتمعات السنّية ك “بيئة حاضنة” للإرهاب، استدراجًا لتحالف بن هذا الثلاثي والدول الغربية الرئيسية بهدف محاربة الإرهاب. ومن شأن ذلك أن يحقق لطهران مجموعة أهداف في وقت واحد: فمن جهة يرسم تحالف كهذا إطارًا ل “الانفتاح الغربي (اأميركي)” على إيران ويسهّل المحادثات السياسية حول النفوذ الإيراني في المنطقة، ومن جهة أخرى يضمن تلقائيًا إعادة اعتراف وتأهيل للنظام السوري الذي دأب على تقديم أزمته إلى العالم باعتبارها مواجهة بن “الدولة” والإرهاب، أما بالنسبة إلى العراق فإن ااتفاقات بينه وبين الوايات امتحدة كفيلة بأن تحفز واشنطن على الانخراط في أي حرب على الإرهاب. لكن الأطراف المستهدفة في الغرب، خصوصًا أميركا، لم تكن ترى أن سياسة كهذه يمكن أن تتوصل إلى النتائج كما تتوخّاها إيران وحلفاؤها، فما ينقصها هو التوازن والحصول على تأييد امجتمع السنّي وتعاونه، ولأجل ذلك لا بدّ من مبادرات سياسية – تنموية لإنصاف السنّة في العراق ومنحهم حقوقهم في سوريا والكفّ عن تهميشهم في لبنان وعن تحدّيهم في الخليج.

منذ 2005 والمالكي يسمع من الأميركين دعوات ملحّة إلى إجراء حوار ومصالحة وطنية، واضطر إثبات هذا الاستحقاق في برنامج حكومته الأولى، لكنه ما لبث أن تناساه ثم نسيه، بل اجتهد في عمل العكس تمامًا، إذ راح يتّبع سياسة “فرّق تسد” مع العشائر والسياسين السنّة. وبعد الانسحاب الأميركي بنهاية 2011 أظهر تغوّلاً فظيعًا في تطبيق هذه السياسة التي أدّت منذ أواخر 2012 إلى الاعتصام المفتوح في المحافظات السنّية، وقد صمم المالكي على كسره بالقوة، وما عجز عن ذلك أعلن أواخر 2013 حربًا على الإرهاب، وطلب مساعدات تسليحية من واشنطن التي أبدت استجابة مشروطة بضرورة طرح مبادرة سياسية تجاه السنّة وطرح عدد من الساسة الشيعة غير الموالين للمالكي صيغًا لهذه المبادرات، لكن رئيس الوزراء رفضها وراح يتقدّم في حلّه العسكري البحت، ومن الواضح أن أجهزته وحتى أجهزة إيران لم تتمكّن من استشراف ما حصل في الموصل. بعدما وقعت الواقعة، بالأحرى الكارثة، لا تزال إيران قادرة على ادعاء أن “شيطنة” المجتمعات السنّية تحققت على نحو فاق خطتّها، تحديدًا بعدما سيطر تنظيم “داعش” على أجزاء من سوريا والعراق
وربطها بعضًا ببعض. غير أن طهران أدركت أن استعانة بغداد بالأميركيين ليست كلّها مصلحتها، فأبرز الشروط الأميركية كان وجود حكومة تمثّل جميع المكوّنات العراقية، ما ترجمته أن المالكي لم يعد صالحً أو مقبولاً للمرحلة المقبلة. ولهذا في حدّ ذاته ترجمة أخرى تعني أن دور إيران من خلال المالكي وحكومة ينفرد بتسييرها لن يكون الدور نفسه من خلال حكومة اتحاد وطني. لذلك لم يبقَ لطهران سوى خيار واحد: تخريب المواجهة مع الإرهاب إذا لم تُعط فيها دور رئيسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً