اراء و أفكـار

الحل الفيدرالي لمأزق العراق

عصام فاهم العامري*

اثبتت الاحداث التي يعيشها العراق انه يسقط مرة اخرى في الحرب الاهلية.. واذا كانت امريكا نجحت في المرة الاولى سنتي 2007 ـ 2008، في تخصيص مصادر عسكرية واقتصادية هائلة في محاولة لانقاذ العراق.

وقد نجحت إلى حد ما آنذاك، الا ان الامر اختلف الان؛ فالقوات الامريكية غادرت العراق منذ نحو أكثر من ثلاث سنوات، كما ان واشنطن غير مستعدة أن تخصص اي شيء يشبه تلك المصادر السابقة، كما لا يستطيع اي بلد اخر ان يفعل ذلك. وبالتالي، فان المستقبل الاكثر احتمالا الذي سيواجهه العراقيون هو حرب اهلية جديدة تخاض بصورة رئيسية استجابة للانقسامات العرقية ـ الطائفية الداخلية في العراق.

بالطبع الانحدار نحو حرب اهلية واسعة سيقضي حتما على مئات الالاف من العراقيين في صراع فاشل. ومثل هذه الحرب ستطول كثيرا لتدمر قدرات البلاد وتخلف الكثير من المهجرين، ومثل هذه الحرب لن تنتهي سريعا وهي ستنتهي حتما بواحدة من ثلاث طرق. الطريقة الاولى هي ان تنتصر مجموعة معينة، ووفقا لهذه الطريقة؛ فإن بعض امراء هذه الحرب يروجون ان الشيعة يملكون الفرصة الافضل بسبب ثقلهم السكاني، ولكن التاريخ قدم لنا العديد من الحروب الاهلية، حيث ان العدد لوحده اثبت عدم قدرته على الوصول لا إلى انتصار سريع ولا حتى إلى انتصار نهائي. وبغض النظر عن المنتصر النهائي فالواقع ان العراق، دولة وشعبا، والمنطقة بأسرها ستكون خاسرة، فضلا عن الامن العالمي وايضا امريكا. وبالتالي فعلى جميع الاطراف الاقليمية والدولية الا تنخرط في مثل هذا الخيار ومحاولة ايقافه او حصره. والطريقة الثانية هي التجزئة، حتى الان، كلا الطرفين السني والشيعي لا يبديان ممانعة كبيرة بالسماح للاكراد في المضي قدما نحو الاستقلال، اذا كان الامر يتعلق بحدود الاقليم الكردي القائم، اي بمحافظاته الثلاث (اربيل والسليمانية ودهوك).. ولكن المشكلة تبرز في ما يتعلق بمطالب الاكراد في المناطق المتنازع عليها، خصوصا ما يتعلق بكركوك. هذه المطالب في حال استمرارها في اجواء الخلاف والتنازع، من شأنها ان تفجر حربا اهلية طويلة ومكلفة، واذا ما اندلعت مثل هذه الحرب، فان كلا الطرفين قد يتوصلان إلى ادراك الا احد منهما يستطيع تحقيق الانتصار، ولاسيما اذا كان الطرفان يحصلان على مساعدات خارجية كبيرة من الدول المجاورة. والافضل لكلا الطرفين ان ينخرطا من الان في مفاوضات من اجل الانفصال إلى دولتين مختلفتين، كما حصل في السودان. ومع ذلك فان التجزئة المحتملة لاتزال صعبة ودموية وتستغرق وقتا طويلا لكي تتحقق. وللاسف هناك مقولة خطيرة يتم تبنيها في بعض الاوساط العراقية والدولية، خصوصا في واشنطن، مضمونها ان التجزئة قد تكون سهلة، لان العراق منذ مدة قد تمحور في اجزاء مرتبة يمكن فصلها بسهولة. وكل ذلك امر زائف، فلا تزال هناك مدن متجاورة مختلطة عبر وسط العراق ومنها بغداد، وبالاضافة إلى ذلك، فان الميليشيات السنية والشيعية تطالب باراض مسكونة بشكل كبير من الطائفة الاخرى. وكل ذلك يشير إلى انه ربما سنحتاج إلى سنوات من اراقة الدماء بصورة وحشـــــية لاقناع قادة السنة والشيعة كليهما بالموافقة على التجزئة، ناهيك عن اشــكاليات تقسيم الموارد، وبالتالي فان خيار التقسيم يستدعي بالضرورة الحرب الاهلية، ويظل خيارا محفوفا بالمخاطر الكبرى.
اما الطريقة الثالثة التي على ما يبدو تتبناها ادارة اوباما الان والاطراف الاقليمية والدولية الاخرى فهي، هندسة حكومة عراقـــية جديدة بحـــيث يقبل بها الاكراد والشيعة والسنة، وبذلك يستطيعون عندها ان يشنوا هجمات عسكرية موحدة (مع الدعم الامريكي) ضد داعش.
وهذا يتطلب اولا اقصاء المالكي والمجيء بقادة جدد، وهو أمر يبدو انه قابل للتحقق في الايام القليلة القادمة، ولكن ذلك وحده لا يكفي، فالحقيقة ان ما أوصل العراق للمأزق الذي هو فيه هو الخوف في المحيط العراقي ـ السنة والاكراد والشيعة ـ من ممارسات الحكومة الاتحادية في الهيمنة والتسلط وحصر السلطات وتركيزها لديها. ولعل المطلوب حاليا إحداث تغييرات هيكلية بعيدة المدى في الاسس السياسية والاقتصادية والعسكرية العراقية، من اجل توزيع السلطة والامن والثروة من المركز إلى الاطراف. وبعبارة اخرى فانهم سوف يكونون راغبين بالمشاركة في عملية سياسية عراقية جديدة اذا كانت هناك فيدرالية حقيقية.
والحل الفيدرالي سوف يحافظ على الوحدة الاسمية للعراق وبعض الوظائف الاساسية للحكومة المركزية، ولكن سوف يوزع النسبة الكبرى من السلطات والمسؤوليات من بغداد إلى المحافظات والاقاليم.
وفي الوقت الراهن دعونا نركن الاكراد جانبا. اولا، من الجدير رسم معالم ماذا يمكن ان تعني الفيدرالية لعرب العراق، والاسس سوف تكون باعادة توزيع السلطة من الحكومة المركزية إلى المحافظات والاقاليم، واعادة توزيع السلطة داخل الحكومة المركزية للحيلولة دون ظهور رئيس وزراء متطرف اخر بافراط مثل المالكي. ونقل السلطة من المركز إلى الاطراف يتطلب البدء بالاموال، فالحكومة المركزية سوف تحتفظ بوظيفة اعادة توزيع عوائد النفط، استنادا إلى قانون جديد لعوائد النفط. ومثل هذا القانون سوف يخصص ايضا نسبة محددة من الاموال للحكومة المركزية لممارسة وظائفها (المحدودة)، او ببساطة قد يخصص مبلغا ثابتا، سيحدد المدى الذي عنده يستطيع البرلمان الفيدرالي التحكم بعوائد النفط العراقي لتمويل انشطة الحكومة المركزية. ومع ذلك، فان الاستكشاف والانتاج وحتى تصدير موارد الطاقة سوف يكون من نصيب المحافظات والاقاليم. وهناك عدد اخر متنوع من الوظائف الاخرى يتطلب ان يتم توزيعها، مع بعض التحويل إلى الاقاليم والمحافظات، وتبقى الاخرى باختصاص بغداد. وفي الحال الحاضر فان ادارة شبكات الكهرباء ومصادر المياه، وبالتالي السياسة الزراعية، وشبكة تحويلها سوف تبقى من المحتمل من اختصاص الحكومة الاتحادية. ومن جهة اخرى، فان سياسة التعليم والاسكان وسياسة العمل وبقية الوظائف المماثلة سوف تصبح في سلطة المحافظات والاقاليم، ويتم تمويلها من اموالها الخاصة. وموضوع الامن سيكون حذرا بصورة خاصة، فيترتب على بغداد ان تتنازل عن الحفاظ على القانون الداخلي والنظام إلى الاقاليم والمحافظات، التي سيسمح لها بزيادة قواتها المحلية للقيام بذلك. وكذلك سيتوجب ان تحصل على حصة من الميزانية الاتحادية ـ متناسبة مع عدد السكان، ولكن تبقى بصورة كاملة تحت سيطرة المحافظات والاقاليم- لتمويل وحداتها الامنية الداخلية. ومع ذلك، فان الحل بالنسبة للدفاع الخارجي يجب ان توضع مسؤوليته على الحكومة الاتحادية. وفي هذه الحالة، ومادام الجيش العراقي سيحتفظ دائما بالقدرات الكامنة لاخضاع اي او كل المحافظات، فانه يجب ان يكون هناك توزيع للسلطة داخل بغداد، لكي تجعل من الصعب، ان لم يكن من المستحيل، لاي رئيس وزراء عراقي اللجوء إلى ذلك. وبديلا عن ذلك، فان بعض العراقيين يجادلون بان كل اقليم فيدرالي يجب ان يحتفظ بقواته الخاصة، مثل البيشمركة، وبانه يجب بالتالي على الاقاليم ان تنسق قواتها المسلحة وانشطتها لتأمين الامن الخارجي.
واذا ما اعتمد هذا المسار فسيكون من الضروري اقامة توازنات وضوابط من شأنها أن تحد من قدرة الحكومة على استخدام قوات الامن لقمع اي طائفة او مكون عراقي. والخطوة الاكثر فائدة ولكن الاكثر طموحا ايضا سوف تكون في تعديل دستوري لتغيير من يتولى الشؤون الخارجية والامن الوطني، ومن ضمنها قيادة القوات المسلحة العراقية، ونقل الصلاحية من رئيس الوزراء إلى رئيس الجمهورية، الذي يجب ان يطرح للنقاش العام هل يخضع انتخابه من قبل البرلمان او من قبل الناخبين. وسيحتفظ رئيس الوزراء بالسيطرة على السياسة الداخلية والسياسة الاقتصادية، وكلتاهما ستخضعان إلى قيد البقاء مرتين فقط في المنصب.
ويحتاج القادة العراقيون النصوص الدستورية، وتفعيل التعديلات حينما تكون ضرورية، لعدم تسييس المهام الامنية وتعزيز المراقبة البرلمانية. ويتضمن الدستور حاليا توازنات وضوابط مهمة، كان قد تم التحايل عليها. وتحتاج إلى المصادقة البرلمانية للتعيينات الخاصة، ولاسيما قادة الجيش ومساعديهم وتقسيم القيادات المذكورة ومدير المخابرات. ولاتزال القوانين تحتاج إلى تعريف سلطات وزير الدفاع، الذي يعينه رئيس الوزراء، ووزير الداخلية، الذي يعينه رئيس الوزراء، واعادة توزيع مراكز مهمات الجيش العراقي المختلفة في ظل سلسة القيادة التابعة لوزارة الدفاع، وهي تتبع حاليا مباشرة برئيس الوزراء، وتحديد التعامل بثروة موارد الطاقة في الاراضي. وبقية التعديلات الدستورية يجب ان تعيد تعريف كيفية تعيين الجهاز القضائي العراقي وانتخاب المسؤولين الكبار فيه. ويجب ان تفوض السيطرة على قوات الامن المحلية وتعيين جميع المسؤولين في الحكومات الاقليمية والمحافظات، فضلا عن الهيئات المستقلة وطريقة الاشراف الحكومي والبرلماني عليها.
آن الأوان للبرلمان الجديد والحكومة الجديدة وضع الضوابط الدستورية والتوازنات حول رئاسة الوزراء والسلطات التشريعية بمستوياتها المختلفة بما يمكن من مكافحة الفساد الذي اضحى آفة متوازية مع الارهاب والميليشيات في تدمير العراق وتبديد الثروات واستنزاف حياة شعبه ومستقبله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً