اراء و أفكـار

حوار حول رجل إسمه عبدالجبار شنشل*

جعفر المظفر*

هذا حوار دار بيني وبين العزيز أخي سعيد المظفر, تعليقا منه على مداخلة كنت نشرتها حول واحد من رجالات الجيش العراقي السابقين وهو الفريق الركن عبدالجبار شنشل الذي يرقد في عامه التسعين مقعدا على فراش الموت, في شقة إبنته في عمان.
وأنا حينما أعيد نشر هذه المداخلات فلإعتقادي بأهميتها من واقع أنها قد تحمل بعض الإجابات الشافية التي بإمكانها أن تساهم بإعادة ترتيب الأوراق في ثقافتنا السياسية المرتبكة والمتداخلة الأوراق والخنادق.
وستكون من مهام الأقلام العراقية الوطنية أن تفعل ذلك لغرض إعادة تأسيس الوطن المشترك. وانا في الحقيقة أدعو قلم أخي سعيد, المبدئي الشجاع الصريح, مع بقية الأقلام التي تتحلى بأخلاقيته ونواياه, إلى الإنتباه لهذه النقطة الهامة وحسابها, إذا ما كنا بصدد تأسيس ثقافة عراقية مشتركة. وسأذكر له موقفا عشته بداية السبعينات أثناء زيارتي لجيكوسلافاكيا, التي كانت قد خرجت توا من “ربيعها” المشهور, لكنها لم تكن خرجت بعد من عصرها الشيوعي. ففي شوارع تلك المدينة كنت اشاهد نصبا وتماثيل لرجال تاريخيين يمتون لعصورما قبل قيام دول المنظومة الإشتراكية الشرقية التي كانت تابعة وقتها للإتحاد السوفيتي, فلما ابديت دهشتي من رضاء الشيوعيين الحكام لوجود نصب كهذه ذكروا لي ان ذلك تم الإتفاق عليه بين الشيوعيين الجيكوسلافاك أنفسهم, الذين إعتقدوا أن وجود هذه النصب لها قيمة ثقافية تتقدم بكثير على قيمتها السياسية لأنها تتحدث عن تاريخ يجب ان لا يلغيه الإختلاف في السياسة أو العقيدة أو تعاقب فصول التاريخ المختلفة. وإني هنا لا أقترح بناء نصب لرجالات مثل شنشل, أو إعادة الإعتبار إليهم مفترضا أنهم كانوا فرسانا أبطال, وإنما جئت بالمثال لكي ادلل على أن بإمكان الشعوب أن تظل على قيد الحياة حينما تكون لها قدرة قراءة التاريخ بعيون المستقبل. لكن إحدى مشاكلنا الأساسية تبقى كامنة في خطأ ترتيب هذه القراءة, ويبقى أن الكثير من ما نعانية هو نتيجة لقرائتنا المعكوسة التي تدخل على المستقبل الذي يراد بناءه من خلال مشاهد الإختلاف في تاريخنا المشحون بها حد التخمة.
مداخلة الأستاذ سعيد: مع فائق إحترامي وتقديري للأستاذ جعفر المظفر, ورغم كل ما تمناه عن هرم العسكرية وصرحها العالي المتين عبدالجبار شنشل, لكن عبدالجبار شنشل هدم كل هذه الصروح الذي كان هو اساسها وأوثق عمود من أعمدتها وباع كل ماضيه الكبير بالتحية التي أداها إلى المخبول عدي بن الطاغية صدام الذي لو كان عدَّ نصف سنين رتبته مع عمر هذا المخبول لوجدها فاقت عمره .. هل كان مضطرا.. لا أظنه كان مضطرا لهذا.
أما ردي فقد جاء كما يلي :
أنا يا أخي سعيد لم اجعله نبيا, أو فارسا أو حتى بطلا, لكنني حسبت أن لكل منا أخطاؤه.
وإعطني عراقيا لم يخطأ, أو لن يكون معرضا للخطأ, لكي امنحه حق إستعمال حجارته ضد الآخرين.
ففي هذا العراق, إذا اردنا لمشترك أخلاقي وثقافي ان يتأسس بين الجميع, ثمة هامش للخطأ قد يكون من الضروري ان نحسبه لا ان نتحاسب عليه.
أوافقك على صعيد التفصيلة التي ذكرتها عن الرجل, وبحدودها. وربما هناك العديد غيرها الذي يحسب عليه. لكننا الآن بحاجة ماسة للعودة إلى الأساسيات. سأضرب لك مثلا عن موقف كنا نعاني منه جميعا ثناء وجودنا كموظفين في الدولة العراقية التي ترأسها صدام, حيث كنا, كل في دائرته, نقف مضطرين للمشاركة في عيد ميلاده.. ومَنْ الذي كان يجرأ عن التغيب في ذلك اليوم عن دائرته ؟!
كنت أقول حينها, إن الجميع مضطرون للتصفيق, ولكن ليسوا مضطرين للرقص والردس والغناء بصوت عالي. وأظنك تتذكر قصة تلك المذيعة التي كسر أحد مرافقي صدام ضلعها لأنها لم تكن تصفق, أو لعلها لم تكن تصفق بالحماس الذي اراده. وأنا لا اقدم تبريرا هنا بل أقدم تفسيرا لمَشاهد لا بد للسياسي المبدئي ان يقف امامها بكل جدية وتمعن وأن لا يقترب منها بطريقة لا تراعي الظرف حينها, فيكون بالتالي كمن ينزع عن رجل الإسكيمو ملابسه في عز الشتاء طالبا منه أن لا يرتجف.
نعم كان يمكن لنا جميعا, نحن المعارضون وقتها, أن نخرج من البلد ونلتحق بصفوف المعارضة, لكن ذلك يعني إدانة كل من لم يستطع أن يفعل ذلك, مضطرا أن يشارك بعدها في مجاملات رسمية توجب عليه وظيفته أن يلتزم بها, ومنهم رجالات كبار بعلمهم وأخلاقيهم ومنبتهم. فهل ان من حق احد أن يتعرض لهم من خلال موقف تفصيلي يرى فيه خطأ, وينسى مواقفهم الأخرى التي تضع في ايديهم وثيقة العبور الوطني والأخلاقي.
إن عسكريين روس كبار كانوا قد حاربوا جيش هتلرالنازي دفاعا عن أرضهم ووطنهم رغم انهم كانوا بإمرة ستالين الحاكم الدموي, بينما كان على الطرف الآخر عسكر ألمان إضطروا للسير خلف الطاغية هتلر دون أن يجري حسابهم على خانة النازية. وعلى صعيد عراقي جرت إعادة العديد من الضباط الذين كانوا يؤدون التحية لعرفاء وجنود صف جرى تنصيبهم آنذاك كأمراء وقادة.
ولسنا هنا بصدد المطالبة بإعادة الفريق عبدالجبار شنشل إلى الجيش, مثلما فعل المالكي مع ضباط لم يكونوا أقل منه ولاء للنظام السابق, فالرجل الآن ينتظر الموت غائبا عن الإحساس بمن حوله, ولا نحن بصدد البحث في قضيته بإقترابات شخصية, وإنما نحن ننظر إلى المستقبل المشترك فنرى إن إحدى إشتراطاته هو إعادة قراءة التاريخ العراقي المعاصر بعين أكثر حرفية وحيادية وأقل أدلجة وتعصب, وهذا سيقودنا بكل تأكيد إلى مزيد من المرونة والتسامح, وقبلها العدالة والحكمة , وصولا إلى وطن تتسع فيه مساحة المحبة والرؤيا الحكيمة وتضيق فيه مساحة الكراهية والتعصب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً