اراء و أفكـار

القبائل الإثنية الكبرى ومعادلة تقاسم السلطة الثلاثية فـي العراق

سعد سلوم*

مع تغير الموقف التفاوضي حول السلطة بالنسبة للأكراد، الشيعة، السنة، بعد العام 2003، تبدل موقع هذه الجماعات الكبرى على نحو جديد: أقلية سياسية تجد ذاتها فجأة في موقع أغلبية عددية مسيطرة (الشيعة).

وجماعة ممسكة بزمام السلطة تواجه واقع تحولها إلى أقلية مهمشة (السنة)، وأقلية إثنية تظهر في صورة أخ اكبر (الأكراد). أتاح تقاسم السلطة (الذي لم ينجز بشكل حاسم) إعادة إنتاج هوية هذه الجماعات، التي سأطلق عليها تسمية (القبائل الإثنية الكبرى). وأطلق الصراع على شكل وحدود هذا التقاسم سيروة عنف في بلد محطم، مسببا أكبر هجرة في تأريخ العراق للجماعات الاصغر حجما، وعلى نحو رسم حدود الانتشار الديموغرافي لهذه القبائل مع حدود جغرافيا إثنية أصبحت، شيئا فشيئاً، تتطابق مع سيادة مكون وثقافة محددين. الجغرافيا الإثنية كانت تمظهرا مكانيا لصفقة تقاسم القبائل الكبرى لجثة العراق. وكان الحيز المتاح على المسرح لتزاحم الكبار على حساب إعطاء دور ثانوي أو ملحق لبعض الكومبارس من الأقليات. وطحنت دوامة الصراع على السلطة والثروة اية امكانيات استقلالية لمن لا ينتمي الى نادي الكبار، واخترقت وتداخلت خطوط التقسيم الجغرافي بين مناطق التماس بين هذه القبائل الإثنية مع مناطق الأقليات التأريخية التي هي رمز على التنوع الخلاق في البلاد. في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وفي أثناء عقد مؤتمر (أصدقاء برطلة) لمناهضة التغيير الديموغرافي لمناطق المسيحيين في سهل نينوى، تبينت مآلات هذا الصراع، وظهر مقدار التأثير الكارثي للصراع بين نخب القبائل الإثنية الكبرى في توظيف الأقليات ونقل ساحة الصراع داخل الأقليات، فالمؤتمر، الذي عقد في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، تحت شعار (لا للتغيير الديموغرافي في مناطق المسيحيين الأصلية في العراق)، أوضح مقدار التعقيد في النتائج التي ترتبت على صراع الكبار، والثمن الذي تدفعه الأقليات. ويهدف هذا المقال إلى إثارة الاهتمام بجوانب هذا التعقيد وإطلاق نقاش على مخاطره. وأعتقد أن ما ظهر من نقاشات مهمة في المؤتمر والاتهامات والاتهامات المتبادلة، ينبغي ان يضعنا على خط التماس مع مخرجات هذا الصراع على هوية البلاد ومستقبلها، فالقضية ليست قصة صراع مسيحي شبكي أو صدام شيعي مسيحي، بل هي من وجهة نظري لحظة مفصلية في قرار التعامل مع مطالب الأقليات بجدية، وفتح النقاش على طبيعة ونتائج صفقة تقاسم السلطة بين الكبار وأشباح حربها المقبلة، وهي مناسبة لإيلاء مطالب الأقليات استحقاقها في وقت تسير فيه البلاد الى الانقسام الى جزر منعزلة على يد القبائل الإثنية الكبرى في لعبة مثلث السلطة الدموي: الكردي/ الشيعي/ السني. ولكي لا نثير الاعتراض على المطالب الخاصة بالأقليات والمتعلقة بشكل الدولة، أو يساء تفسير طرح هذه المطالب، نود التفرقة بين مطلبين في هذا السياق، فهي أما ان تكون مطالب (انفصالية)، أو تكون مطالب متمحورة على (الاستقلالية الإدارية).

وكلا الخيارين يستدعي التفكير بعمق والنقاش بتجرد على مصالح الكبار أو توظيفه هذه المطالب لصالح إضفاء ثقل ديموغرافي على حجمها السكاني، ومن ثم الانتخابي، وحصتهما في الثروة، واستيعاب مناطق الأقليات ضمن خريطة التوزيع الاثنوجغرافي للكبار.

الخلط بين مطالب (انفصالية) ومطالب (الاستقلالية الإدارية) سبّب سوء فهم لدعوات طرحت في السنوات الماضية تناولت مقاربة مناطقية لحل مشكلة هجرة الأقليات، تغذيها تقاليد ثقافة تجربة السلطة المتركزة إثنيا في تأريخ العراق المعاصر، والتي تصورت أن فتح المجال للأولى سيؤدي حتما للأخرى، فتتحول مطالب (الاستقلالية الإدارية) إلى مطالب (انفصالية). وتجسد الأخيرة رغبة الأقليات في قيام كيان سياسي مستقل يعبر عن الهوية الخاصة للأقلية (قومياً، أو دينياً، أو لغويا) أو تكون بغرض التخلص من هيمنة الأغلبية، وقد تتخذ شكلين: ـ قيام كيان سياسي جديد في صورة دولة مستقلة، وهو خيار لا يمكن تخيله الآن لغير الأكراد، وعلى نحو أقل للسنة أو الشيعة، لأسباب معقدة، لسنا بصددها هنا. ومن ثم، فهو ليس خيارا يخص الأقليات بقدر ما يخص القبائل الاثنية الكبرى.

ـ السعي للانفصال بغرض الانضمام الى كيان سياسي آخر، تعتقد جماعات الأقليات أنه يعبر عن مصالحها بشكل افضل أو يحقق هويتها على نحو أمثل، وهو خيار قد يعيد إنتاج هوية الأقليات لتذوب في هوية إحدى القبائل الكبرى. وهنا، تدور لعبة القبائل الكبرى في توظيف الأقليات واستدراجها لفخاخ واوهام وصراع رموز وأساطير ولحروب بالنيابة. والصدام المسيحي الشبكي، في ضوء ذلك، ليس سوى لحظة كاشفة.

كانت هذه هي احدى نتائح تحطيم الدولة المتمركزة اثنيا على وفق النموذج الأحادي على يد الولايات المتحدة، فقبل العام 2003 كان الأكراد هم أكبر اقلية اثنية تضع امامها خيارات مماثلة تبدأ بالحكم الذاتي (السبعينيات) والفدرالية (منذ التسعينيات)، والفدرالية في ظل وضع خاص (بعد 2003)، والانفصال (خيار مستقبلي). وكان من السهل على الأكراد تخيل تطوير هذه المطالب في سياق الظروف التفاوضية الجديدة لعراق يعاد تشكيله من الصفر، لكن الخيار الكردي كان واضحا بالبقاء ضمن اطار هوية عراقية أكبر في ظل وضع يكفل لهم استقلاليتهم الذاتية (فدرالية مع وضع خاص)، فبعد تدشين الأكراد مشاركة واسعة في السلطة على المستوى الوطني، سرعان ما تبين أنهم تجاوزوا وضع الأقلية الإثنية، مرتفعين إلى مصاف جماعة كبرى ضمن مثلث السلطة للقبائل الاثنية الكبرى. لقد عمل تقدمُ الأكراد في ظل ظروف تفاوضية جديدة على أن يظهرهم بوصفهم الرابح الاكبر في الجغرافيا الاثنوطائفية للشرق الاوسط الجديد، بعد ان كانوا لعقود طويلة الخاسر الاكبر في معادلة التقسيم الكولونيالية للمنطقة. ومع تغير المعادلة السياسية لم يقدموا انفسهم كشريك في السلطة بل كـ (أخ اكبر)، في ضوء ان تحالفهم مع اية جهة سياسية سيحسم حكمها للعراق. في ضوء ذلك، يمكن قراءة التحالف القبائلي الاثني (الشيعي الكردي) الذي سيطر على العملية السياسية منذ الانتخابات البرلمانية الاولى ولحظة تدشين كتابة العقد الاجتماعي الجديد (الدستور) الذي لم يكن في جوهره سوى صفقة لتقاسم السلطة كرديا وشيعيا، مع تمثيل رمزي للسنة، وديكوري بالنسبة للأقليات. وقد أجاد الأكراد استعمال الوضع الجديد لجني فوائد متنوعة، فاصبح كل من رئيس الجمهورية ووزير الخارجية كرديا مع تمثيل فعال في بقية مؤسسات الدولة، وحصة من ميزانية الدولة بلغت 17% أسهمت في إنشاء بنية تحتية في كردستان افضل من بقية اجزاء العراق العربي التي غرقت في نزاع دموي وفساد ومحسوبية وإهمال، كما برزت الهوية الكردية بوصفها (هوية قبائلية كبرى) تطالب بذوبان هويات صغرى فيها مثل الشبك والكاكائيين والايزديين، بل حتى الآشوريين في بعض الطروحات، في مقابل هوية شيعية كبرى تنازعت على الشبك والتركمان الشيعة والكرد الفيلية في ضوء المحدد المذهبي لهوية متحركة أصبح فيها (التشيع) بيضة القبان. هكذا، ومع بروز معادلة السلطة الثلاثية تحولت اقلية إثنية (الأكراد) الى جماعة اكثر فاعلية، متجاوزة الوضع الاقلوي، وداخلة كطرف على خط الصراع على الارض والثروة والسلطة كقبيلة اثنية كبرى. وشمل الصراع على عائدية الأراضي مناطق الأقليات المتعايشة كالتركمان والايزديين والشبك والكاكائيين والمسيحيين، التي أُسبغ عليها وصف بـ (متنازع عليها)، سواء في كركوك التي عمدت بلقب (قدس كردستان) ومناطق أخرى كسهل نينوى التابعة اداريا الى محافظة الموصل والخاضعة لنفوذ كردي واقعي ومناطق أخرى من محافظتي ديالى وصلاح الدين. رسم الصراع على عائدية هذه الأراضي خطوط الصدع بين القبائل الاثنية الكبرى (العرب، الأكراد) وجماعات الأقليات: التركمان، المسيحيين، الشبك، الكاكائيين، الايزيديين، أقليات اخرى، فقد رفع ممثلو الجماعات مزاعم متضاربة عن عائدية هذه الأراضي الممتدة عبر الجزء الشمالي من البلاد، بين إقليم كردستان وجنوب العراق. وهناك (خط سيطرة) غير رسمي ودائم التغير يقسم المناطق المتنازع عليها، وهو يرسم الحدود الجنوبية للأراضي الخاضعة للحكم الكردستاني. أما بؤرة الصراع فتتركز حول كركوك، التي اصبحت مركز الصراع على تأريخ وذاكرة وهوية مختلف عليها بين مكوناتها الثلاث، بحيث اصبح تأريخها المشترك يؤول بطرق مختلفة جذريا، فالصراع على هوية المدينة، كما يذهب مؤلفا كتاب (أزمة كركوك)، ليام اندرسن وغاريث ستانسفيلد، هو في جوهره معركة اساطير ومرويات قومية عن الهوية والملكية، فالعرب والتركمان والأكراد كل لديه نسخته الخاصة من التأريخ، وقد أثار استغراب المؤلفين غياب النقاش المسيحي عن هوية المدينة، فمسيحيو كركوك من الكلدواشوريين وهم المكون الرابع للمدينة، لم يعد لديهم ثقل سياسي في كركوك او بقية المناطق المتنازع عليها. ويعكس هذا الغياب واقعهم العددي الاقلوي الذي لا يجعلهم ذوي فاعلية في تحديد وضع المدينة في المستقبل. لكن هذا النقاش عاد بقوة في الخطاب المسيحي فيما يخص مناطق سهل نينوى في ضوء تهجير المسيحيين من الموصل ووسط وجنوب العراق والشبك من الموصل بفعل دوامة العنف التي انطلقت بعد تشكل ملامح مثلث السلطة القبائلي الجديد، والرفض السني للتهميش في وضع الضلع الاضعف.

وما كان للنقاش أن يتخذ ابعاده الحالية ويعود بمثل هذا الزخم لولا عامل التوقيت قبيل الانتخابات البرلمانية، وعامل الدفع القبائلي من قبل الكبار في توظيف مدروس، ولكنه أكثر من ضروري الان، فالصدام المسيحي الشبكي في ضوء الاطار التفسيري العام هذا، ليس سوى صدى لصراع القبائل الكبرى على خطوط الحدود الدموية الكردية العربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً