اراء و أفكـار

حياة قديمة في كانون الثاني

علي السراي*

كانون الثاني 1999
كان هاربون ومتخلفون من الخدمة العسكرية يقضون عقوبة السجن في معتقل عسكري بمدينة الرمادي. الطابق العلوي من السجن كل ليلة يشهد صخباً عارماً. السجناء ينتظرون دورهم للوقوف عند نافذة واحدة في كل قاعة، تسع بالكاد لثلاثة اجساد، كل نوبة يحق لها مشاهدة منظر المدينة البعيدة، لعشر دقائق فقط.
كانت الحياة البعيدة مضاءةً بأنوار السيارات وهي تمر مسرعة على الطريق، ومصابيح كهربائية تزين خزاناً كبيراً للمياه.
مع الفجر لا ضوء يتحرك في الطريق، سوى نور الخزان الثابت.
قبل ذلك بشهور، وقف مدير السجن، بكرش متقدم وشارب كث، وبيرية، لا يعرف كيف يضعها، على منصة حديدية يستعملها الجنود لمراقبة السجناء: ستخرجون جميعاً من هنا.. الرئيس القائد سيعفو عنكم في ذكرى تأسيس الجيش.
نزل من المنصة، وعاد لمكبر الصوت: لا تعودوا إلى هنا مرة أخرى.. لن اتغير أبداً، سأواصل عقابكم بهذه. وكان يؤشر إلى كيبل غليظ ملفوف بقماش أحمر.
النافذة المطلة على المدينة البعيدة، تحولت إلى سينما يومية، من دون تذاكر. عليك فقط أن تنسق مع “شقاوات” السجن لتعرف متى يحين دورك. ومنذ شائعة العفو كان الجميع يسقط باكياً كلما خطفت سيارة بمصباح مضيء، كأنها مذنب راحل إلى الشرق.
لم يحتفل السجن بعيد الجيش ذلك العام، وفي اليوم التالي ضرب الجنود صافرات التنبيه الصباحي، وكان الجميع يستعد لجمع ملابسه، ودفاتر كتبوا فيها سيرة الأيام خلف القضبان. اصطف الجميع، وكانوا يقربون من الأربعة آلاف شخص، في ساحة السجن، وفي المقدمة وقف ضباط برتب كبيرة:
ستقضون بقية احكامكم حتى نهايتها.
في المساء نقل ثلاثة أشخاص إلى الحبس الانفرادي، لأنهم ضربوا رؤوسهم في حديد النوافذ حتى ادميت. بعد ذلك لم يكن احد يريد ان يراقب مصابيح السيارات البعيدة، بينما سجناء الطابق السفلي يفاوضون زملاءهم للانتقال إلى الأعلى، بانتظار شائعة عفو جديدة.

كانون الثاني 2001
كان جنود وحدة القلم العسكري يغطون في نوم عميق في ليلة باردة. دخل حراس آمر الوحدة المرابطة على الحدود العراقية الإيرانية في محافظة ميسان، غرفتهم الطينية، وطلبوا منهم حمل الأسلحة وصعود حوض عجلة الـ”ايفا”. على الفور تحرك رتل عسكري إلى الحدود، واخترق منطقة وعرة، كانت تبدو أرضاً زراعية، لأن العجلات تقفز على اخاديد تركها حرث قديم.
مصابيح السيارات العسكرية كانت تكشف من كان الجنود يلاحقونه. كان رجلاً ملثماً، يحمل على ظهره بندقية وكيساً. طلب القائد رميه بالنار، لكن أحداً لم يفعل. فاخرج رأسه من نافذة سيارة البيك آب، واطلق رصاصتين من مسدسه، فانقلبت الدراجة النارية، وقفز الرجل الغريب الملثم في الهواء، وحين هبط على الأرض كان ميتاً.
تفحص الضابط الكيس، فعرف أنه قتل صائداً للطيور في العراء، لكنه حمل الجثة إلى الوحدة، ورماها في حديقة منزله داخل المعسكر، حتى تيبس وجهه، على الرغم من ان حارساً كان يسقي زهرتين قرب الجثة صباح كل يوم.
تلقى جنود القلم العسكري أمراً من ضابطهم بكاتبة برقية من النوع السري والعاجل، إلى بغداد: قتلنا عميلاً تسلل الحدود. (انتهى)
كانون الثاني 2003
كان عماد مطوعا فاسداً في الجيش اقترح على زملاء له شيئاً للخلاص: نحن نحفر الخنادق في كل مكان، حتى هذا المرتفع الاخضر الجميل في خانقين، جعلناه مثل مصفاة دقيق. لا شك أننا سنقاتل في حرب جديدة. لذا سأسهل على من يرغب الهروب إلى الشمال.
كان خمسة شبان، دفعوا لعماد مبلغ التهريب بالعملة العراقية، وتجهزوا لساعة الصفر: ثلاث سيارات من نوع واز، تتحرك ليلاً من منطقة “قزانية”، نحو الشمال.
مرت العجلات بطرق غير نظامية، وكان عماد يقول لمن يهربهم: سنصل إلى بيت أصدقاء كرد، هم من يدخلونكم السليمانية.
في بيت “الأصدقاء”، كان ملثمون بالزي الزيتوني ينتظرون الهاربين من الجيش، ولا أحد يعرف مصيرهم إلى اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً