اراء و أفكـار

عراق ما بعد الانتخابات صراع بين أسلمة الدولة وعلمانيتها

عدنان الحلفي*

العراق رقم لايمكن اهماله ضمن الخارطة السياسية في الشرق الأوسط. اذا كان اليوم يعاني ضعفه بسبب الفُرق الحكومية الفاشلة وطابور الموظفين الفاسدين المنتشرين داخل القطاع الحكومي في دوائر جميع الوزارات دون استثناء، بجميع الحوال ذلك سيكون وضع مؤقت. وانتروبولوجياً المجتمعات التي تتعرض لأنهيار مؤقت (حسب قاعدة العالِم الامريكي جيرد دايموند صاحب كتاب انهيار الحضارات) ستعود مرة اخرى لأعادة ثقلها الحضاري بعد زوال مراحل الانهيار تدريجياً. ويوثق دايموند فكرته على اساس ان عوامل القوة الكامنة في المجتمع تتواجد في مفصلين اساسيين هما : الأرض وألأنسان، وهاتان العاملان يتعرضان الى الضعف ولا يتعرضان الى التلاشي. فمازالت الأرض التي قامت عليها الحضارة لن تتعرض الى الانهيار لأنها وأن حرقت تعود مرةً اخرى الى الأنبعاث. وعلى اساس نفس المبدأ ايضاً الأنسان يتعرض الى الضعف ولا يتعرض الى التلاشي لأن الاجيال تتغيرولا بد ان يظهر جيل من الأجيال المتوالدة يعيد الثقل الحضاري الذي كان يتمتع به اسلافه.
هذا المقياس يمكن تطبيقه بشكل واضح على الدولة العراقية التي تتقاذفها مراحل الضعف بسبب عوامل خارجية وداخلية. الا ان الانسان العراقي والأرض العراقية يحتفظان بسر قوتهما. وهذه الحقيقة يمكن دعمها بالأطلاع على الوجه الحقيقي للدولة العراقية في مراحل الستينات والسبعينات وبداية عقد الثمانينات. لقد تفوق العراقي في بلده وفي خارج بلده وهناك اسماء لعلماء وأكاديميين وكتاب وفنانين سطروا ملاحم عراقية داخل وخارج العراق، على سبيل المثال لا الحصرالشعراء بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، الجواهري، عالم الاجتماع علي الوردي، الفنان جواد سليم، الفنان خالد الرحال وجيوش أخرى من المبدعين والاكاديميين والرياضيين الذين لهم شرف قيادة الدولة والمجتمع العراقي لفترة جاوزت الثلاثة عقود تميزوا في قيادة الفن والابداع والصناعات والخدمات قبل ان تلتهم الطبقة السياسية انجازاتهم وتدخل البلد في حماقات حروب احرقت الأرض وأتت على ألأنسان العراقي. لقد تميزت الأجيال ألماضية بوطنيتها ونزاهتها وابداعها. أما ألأجيال التي جاءت بعد الحروب وحصار البلد الذي دام 13 عاماً (منذ غزو الكويت في اب 1991) فقد تميزت غالبيتها بالجهل والتخلف والطائفية وضعف النفوس والجشع واللاوطنية، مما أدي الى صعوبة اعادة بناء الدولة العراقية مجدداً خلال العقد الأول بعد التغيير السياسي من مرحلة الدكتاتورية الى مرحلة الديموقراطية.

تأسيساً على نظرية دايموند في الأنتروبولوجيا فأن الجيل العراقي القادر على بناء الدولة العراقية لم يحن الوقت لصعوده على منصة قيادة الدولة والمجتمع بعد، لأن اعادة بناء الدولة ذات الثقل الحضاري بحاجة الى أكثر من عقد ليبدأ الصراع من أجل اكتساح اثار الماضي واعادة حضارية الدولة. وبرأيي فقد حان الوقت لبداية الصراع من أجل النهوض مجدداً بالبلاد الى نقطة الشروع قبل التلاشي.

ان عوامل الصراع في الوقت الحالي لاعادة دور العراق في منطقة الشرق الأوسط مبنية على فكرة تأسيس الدولة المدنية. تلك الفكرة التي تصطدم في كلياتها مع صعود الأسلام الشيعي والاسلام السني. وحين تم ادخال المجتمع العراقي الى مرحلة التحول الى الديموقراطية على ايدي الأمريكان ظهرت حقيقة الجيل المتلاشي والأنسان المنهك بعوامل الحرب والجوع والحصار وظهر الرسم البياني المرتفع لمستوى الجهل، الأمية، التخلفـ الأمراض النفسية، انعدام الوطنية، والميول الطائفي والعرقي بدلاً عن المفهوم الوطني الذي تاكل تحت وطأة الحروب و الالم والجوع منذ نهاية الحرب العراقية الأيرانية عام 1988 الى سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003. ألنظام الديموقراطي الجديد لم يجد البيئة الصالحة لتأسيس الدولة المدنية واعادة الثقل الحضاري للعراق لسببين :-
1- كان الوريث للانظمة الدكتاتورية بعد انهيارها ليس في العراق فحسب بل في جميع الدول التي تعرضت للتغير هو أحزاب التيار الأسلامي. وهذه الأحزاب التي عايشناها خلال عملها في المعارضة العراقية لا تتبع السبل الادارية الحديثة في ادارة نفسها بل كانت تعتمد على الولاء الحزبي بالدرجة الاولى ولم تكترث الى المهارات وعلمية الفرد وولاءه الوطني في تقييمه. بالأضافة الى التشكيك في وطنيتها ودخولها العراق مرتبطة بولاءات خارجية حالت دون اخلاصها الوطني.
2- بعد التغيير عملت الاحزاب الاسلامية وسط بيئة انسانية منهكة ضعيفة على جميع المستويات المادية والعلمية والنفسية والثقافية وما الى ذلك، هذه البيئة كانت مثالية لأحزاب التيار الأسلامي لنشر فكرهم الديني المتخلف الذي يراد به الولاء لمتبنيات الاحزاب الفكرية والعقائدية والسياسية.

العلمانية تستدعي الفصل
حاربت الاحزاب الاسلامية التيارات والشخصيات العلمانية والليبرالية التي تدعو لفصل الدين عن السياسة حين دخولها العراق. هذه التيارات التي كانت تشعر بالغربة داخل الشارع العراقي لأمكانية الاسلاميين من استغلال الظروف الأجتماعية لصالح تلك الأحزاب ودعمها للممارسات المتخلفة التي تزيد من تسطيح الوعي الجمعي وتخلق تياراً شعبياً ملغٌماً ضد التيارات العلمانية والليبرالية داخل المجتمع التي تدعو الى ابعاد الدين عن دوائر ومؤسسات الدولة.

بعد مرور عشر سنوات على التجربة الفاشلة التي مارسها التياران الاسلاميان السني والشيعي في ادارة الدولة العراقية، وظهور ارقام الفساد الأداري والأمني واثارة النعرات الطائفية وتخريب مقاييس التعييين والأادارة، بدأ الشارع العراقي يبحث عن تيار اخر، تيار غير ملوث بولاءات دينية وطائفية وأجندات خارجية، يعتمد على مقاييس علمية، تكنوقراطية مهنية و اختصاصية في ادارة الدولة تفصل الدين كطقوس تمس المشاعر بشكل شخصي بعيدأً عن الفرض والوصاية والتعصب والتكفير و(السلبطة) على الناس تفصله عن السياسة والوزارات والدوائر والجامعات. بدأ الشارع العراقي يفيق من صدمة الأحزاب الأسلامية التي عرٌاها العمل التسلطي والسياسي في حكم العراق لعقد من الزمن عادوا به الى الوراء لعقود من الزمن على جميع الأصعدة. بدأ الشارع العراقي يفكر باسترداد حريته الفردية وخصوصيته التي صادرتها أحزاب السنة والشيعة. وشعرت الناس بأن الاحزاب الأسلامية استعملتهم في استغلال وتزوير صناديق الأقتراع لصالح مناصبهم وجعلتهم من اثرياء العالم. خلال الأنتخابات القادمة ستستمر لعبة الاحزاب الاسلامية في الاستحواذ على السلطة باستغلال المناصب والتحالفات واستعمال المال العام. اما التيار الليبرالي فمازال ضعيفاً والصراع غير متكافئ مع الطرفين، حيث لم يترك المحسوبون على التيارات الاسلامية المتصارعة على العراق مجالاً للتكنوقراط ان يعلن عن نفسه ويمارس دوره في ادارة الوزارات والدوائر التي قادت المجتمع العراقي الى الحضيض واثْرت على حساب ثروة العراق وموقعه السياسي.

انها مسؤلية كل العراقيين والجيل المتعلم ان يكفر بالتقاليد وقدسية الفرد والرمز والترهات والخرافات، ويستخدم عصر التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي لبث الوعي، وتبني قيم جديدة في احترام الانسان والعمل والوطن والحريات الشخصية واحترام الدين كسلوك ومتبنيات شخصية لاتفرض على الأخر بل احترام متبنيات الاخر، وافشال الفكر الطائفي، والدعوة الى المهنية والتكنوقراط والنزاهة، والايمان بالوطن كسفينة، اي تخريب في سطحها سيغرق الجميع ولكم تجارب واضحة في ذلك بما فعل السفهاء من العراقيين وكيف تدنى موقع اسم العراق والعراقي في كل مكان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً