اراء و أفكـار

متى سيظهر فولتير العرب؟

هاشم صالح*

بينما يلفظ هذا العام 2013 أنفاسه الأخيرة، كنت أتمنى لو أننا كرسنا بضع لحظات للاحتفال بحدث كبير حصل قبل 250 سنة بالضبط، ولكنه مر مرور الكرام من دون أن ينتبه إليه أحد. قد تتوقعون أنني سأتحدث لكم عن حدث سياسي ضخم.وعن سقوط إمبراطور وظهور آخر، أو عن حصول معركة حربية هائلة، أو حتى عن اشتعال ثورة سياسية ضخمة.. لا، أبدا. أقصد فقط ظهور كتاب، نعم مجرد كتاب صغير الحجم لفولتير. بالمناسبة، متى سنؤرخ للأعوام والسنوات بظهور الكتب، فنقول مثلا: في عام 1637 ظهر كتاب «مقال في المنهج» لديكارت، وفي عام 1670 ظهر كتاب «مقال في اللاهوت السياسي» لسبينوزا، وفي عام 1762 ظهر «إميل» و«العقد الاجتماعي» لروسو، وفي عام 1781 ظهر «نقد العقل الخالص» لكانط، وفي عام 1807 ظهرت «فينومينولوجيا الروح» لهيغل… إلخ؟ نعم، إن ظهور كتاب واحد أهم من كل تلك الفرقعات السطحية التي تشغلنا وتدوخنا يوميا، ولكن ليس أي كتاب! ينبغي أن يكون كتابا تحريريا يدشن حقبة جديدة في تاريخ البشرية. في البدء كانت الكلمة! إنه يفتح لك الآفاق المسدودة ويشق، بلمعة واحدة، دياجير الظلمات.

من هنا، أهمية الروائع الفكرية والأدبية في تاريخ الأمم والشعوب. ولهذا السبب، فإن الأمم لا تفتخر عموما إلا بمبدعيها الكبار. رجال السياسة يمضون ولا يبقى لهم أثر في التاريخ ما عدا الأبطال. وحدهم الفلاسفة والشعراء الكبار يبقون. وهذا ما عبر عنه جاك شيراك مرة عندما قال: لا يكفي أن تكون رئيسا للجمهورية الفرنسية لكي يسجل اسمك على صفحة التاريخ. وحده ديغول من بيننا سيبقى، أما نحن جميعا فسيطمرنا النسيان.. وقد فوجئت بكلامه عندما اطلعت عليه واستغربت صدوره عن شخص معتد جدا بنفسه. الناس قد يتساءلون: ما هو اسم رئيس فرنسا في عهد فيكتور هيغو، وليس العكس؟ ما هو اسم ملك فرنسا في عهد ديكارت؟ ما هو اسم ملوك العرب في عهد أبي العلاء المعري؟ ما هو اسم ملك ألمانيا في عهد غوته؟ أو ملكة إنجلترا في عهد شكسبير؟ هؤلاء هم الملوك الحقيقيون: إنهم منارات البشرية، ملوك الروح والفكر.

لكن لنعد إلى فولتير. في عام 1763 ظهر إذن كتابه «مقالة في التسامح». وهو كتاب صغير الحجم لا يكاد يتجاوز المائة صفحة. ولحسن الحظ فهو مترجم إلى العربية بشكل ممتاز من قبل الروائية السورية هنرييت عبودي. وقد كتبه كرد فعل على التعصب الديني الذي كان مستفحلا آنذاك في بلاد الفرنسيين. كتبه على أثر حادثة مروعة حصلت في مدينة تولوز ضد عائلة جان كالاس التي تنتمي إلى الأقلية البروتستانتية. فعندما انتحر ابنه الشاب اتهموه بأنه هو الذي قتله لكي يمنعه من اعتناق المذهب الكاثوليكي! وبهت الرجل: كيف يمكن أن يقتل ابنه، فلذة كبده؟! وأنكر التهمة بكل قوة وهو في حالة من الذهول لا تكاد توصف. ولكن الأصوليين الكاثوليكيين هيجوا الشارع والمدينة كلها عليه وضغطوا على القضاة لكي يدينوه بتهمة القتل، وهذا ما حصل. ثم ساقوه إلى غرفة التعذيب والقتل وهو يصرخ بأعلى صوته ويحلف بأغلظ الأيمان إنه بريء! ولكن ذلك لم ينفعه في شيء، فقد وضعوه على الدولاب حتى فارق الحياة. عندما سمع فولتير بالقصة جن جنونه. أدرك فورا أن يد التعصب الديني الأعمى ضربت ضربتها. ومعلوم أنه كان عدوه اللدود ولأجل محاربته كرس حياته كلها. ولذلك استنفر كل طاقاته وعلاقاته الواسعة لإعادة تفحص القضية من قبل قضاة محايدين. وهذا ما حصل وأدى في نهاية المطاف إلى كشف الحقيقة وتبرئة هذا البروتستانتي الأقلوي المغدور والمفجوع مرتين: مرة لأنه فقد ابنه الشاب، ومرة ثانية لأنه اتهم بقتله! وعدت هذه القصة أحد انتصارات فلاسفة التنوير على الظلاميين المسيحيين. قد يتخيل المرء أن فولتير فعل ذلك لأنه كان بروتستانتيا مثل جان كالاس.. أبدا، لا. إنه ينتمي إلى الأغلبية الكاثوليكية قلبا وقالبا. والحق أنه لو دافع عن واحد من أبناء طائفته لما أخذت القصة كل هذا الحجم. ولكنه دافع عن شخص ينتمي إلى الطائفة المعادية. بل وعرض نفسه للخطر بسبب ذلك. وهنا تكمن عظمته. لقد أثبت فولتير أن التعصب مدان من أي جهة جاء، وأن المفكر الحقيقي ينبغي أن يقف لصالح الضحية أيا تكن. لقد أفهمنا نحن المثقفين العرب ومثقفي العالم كله أنه لا معنى لمثقف يسكت عن الضيم والاضطهاد الطائفي لمجرد أنه يصيب «الحشرات»، أو الأقليات، كما يسمونها احتقارا. لقد أفهمنا أنه لا شرف لأمة يسكت مثقفوها عن مثل هذه الأعمال الشائنة. وهكذا فتح فولتير صفحة جديدة في تاريخ الثقافة والمثقفين، وأسس ما يدعى بالفكر الملتزم بقضايا الحق والعدل.

وسارت على نهجه لاحقا كوكبة مشعة من كبار مثقفي فرنسا، ليس أقلهم فيكتور هيغو وإميل زولا وجان بول سارتر الذي أدان الاستعمار الفرنسي إدانة مطلقة ودافع بكل قوة عن حق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال. ثم أفهمنا فولتير الحقيقة التالية: أن إدانة الطائفية لدى الآخرين عملية سهلة جدا، ولكن أصعب الصعب هو إدانتها لدينا بالذات. وبالتالي، فالمثقف الحقيقي هو ذلك الذي يقف مع الحق حتى ولو كانت طائفته وجماعته حادت عنه! إنني أعرف أن هذا الجنس من المثقفين الأحرار ليس معدوما في أمة العرب، ولكنه لا يزال يشكل أقلية حتى الآن. أذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر، مي آل خليفة وسوسن الأبطح وأحمد عبد المعطي حجازي ومشاري الذايدي وعلاء الأسواني ورجاء بن سلامة ومحمد عبد المطلب الهوني، وبعض الآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً