اراء و أفكـار

عن «بيريسترويكا» أوباما الهدامة!

راجح الخوري*

تبدو المقارنة بين باراك أوباما وميخائيل غورباتشوف مثيرة إن لم تكن ظالمة، فعندما يحاول كاتب مرموق مثل ديفيد إغناتيوس المقرب من البيت الأبيض، أن يعطي تبريرا لسياسات أوباما.

وخصوصا فيما يتعلق بالانعطافات المتسرعة والمفاجئة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والخليج، التي طالما عدتها واشنطن حيوية لأمنها القومي، فإنه يقع في نوع من التسرع وإن حاول تقديم اقتراحات لإصلاح الأذى العميق الذي سيصيب العلاقات العربية الخليجية مع واشنطن.

أسارع إلى القول إن هناك فرقا كبيرا بين «بيريسترويكا» غورباتشوف، الذي اعتمد استراتيجية «الهدم بهدف إعادة البناء»، و«التغيير» الذي طرحه أوباما ليتبين أنه استراتيجية «هدم البناء». لا يكمن الفرق هنا في مقاصد التغيير عند الزعيمين، بل في جوهر ما يتعين تغييره، ذلك أن غورباتشوف كان يريد هدم البناء السوفياتي المفلس والمتهالك، بعدما أصبح الاتحاد السوفياتي «إمبراطورية خردة»، كما أجمع كتّاب ومحللون قبل قرار بوريس يلتسين في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991 حل الاتحاد، الذي كان إعلانا عن تواري الحقبة السوفياتية من التاريخ.

في المقابل، خاض أوباما معركته الانتخابية الأولى رافعا شعار «التغيير» بهدف إنهاء استراتيجية سلفه جورج بوش، التي قامت على الاندفاع وشن الحروب على الإرهاب، فكان الانغماس أولا في الوحول الأفغانية بما سيريح الإيرانيين شرقا، ثم العراقية بما سيفتح أمام الملالي أبواب بغداد كمنصة لتوسيع قواعدهم وتدخلاتهم الممتدة إلى لبنان وفلسطين عبر سوريا.

وإذا كان من الصحيح أن الحرب أنهكت الاقتصاد الأميركي وخلقت ميلا إلى عدم الانخراط في الحروب الخارجية، فالأصح أن أوباما ذهب بسرعة إلى «مبدأ مونرو» الذي دعا إلى استقالة أميركا من العالم وانسحابها من المسرح الدولي. لكن المثير أن الانكفاء الأميركي لم يتزامن مع الاندفاع الروسي المتزايد فحسب، بل مع اندفاع قوى متوسطة تريد أن تفرض نفسها عنصر قوة على المستويين الإقليمي والدولي، وهو ما سينسف تاريخا من التوازنات القائمة منذ نصف قرن على الأقل.

قبل الدخول في تفاصيل هذه التحولات، يتعين القول إن غورباتشوف كان مضطرا إلى التغيير لأنه أراد انتشال الاتحاد السوفياتي من الهاوية، بينما أوباما ليس في حاجة إلى «البيريسترويكا»، فأميركا متعبة من حروبها الخارجية، لكنها قوية وقادرة على الاستمرار في لعب دورها المحوري دوليا، من دون الحاجة إلى تقديم تنازلات وتراجعات قد تجرها إلى الهاوية!

لدينا ثلاثة نماذج صارخة عن تراجع سياسة أوباما التي قد تقود الإمبراطورية الأميركية إلى الأفول من مناطق، كانت حتى الأمس حيوية لأمنها القومي كما تعلن:

هناك فلسطين، حيث أعلن أوباما في خطابه من القاهرة أن سياسة التغيير التي ينادي بها ستبدأ تحديدا عبر تنفيذ قيام الدولتين. لا حاجة إلى التذكير بما آلت إليه هذه السياسة، يكفي أن نتذكر حرب أوباما الشعواء على أبو مازن لمجرد أنه أراد الحصول على مقعد في الأمم المتحدة، وعندما يواصل نتنياهو لي ذراعه فهذا يعني سقوطا مدويا لدور «الشريك الأميركي» بعد ربع قرن من الجهود.

وهناك سوريا، أو بالأحرى الامتحان السوري الذي كشف عن أن أميركا ليست حامية الحرية وداعمة حقوق الإنسان، والدليل أن لا فرق بين موقفها من هذه المأساة وموقف أي دولة منسية، وخصوصا بعدما كشفت قصة استعمال السلاح الكيماوي وتهديد أوباما بالضربة العقابية، أن الهدف الأسمى تحقق بتقديم الترسانة الكيماوية هدية إلى إسرائيل بمباركة وترتيب من موسكو، التي استعملت سوريا منصة دموية وفوق طوفان القتلى، لتحاول إعادة توازنات الاستقطاب الثنائي إلى المنطقة… في سوريا، فقدت أميركا كل صدقيتها وزرعت سيلا هائلا من المرارات عند حلفائها الذين طالما عَدّوها داعمة لحقوق الإنسان، ليتبين أنها مجرد حفارة للقبور!

وهناك فضيحة الموقف الأميركي من الثورة المصرية، بالوقوف إلى جانب الإخوان المسلمين وتمويل حركتهم لأسلمة الدولة المصرية بعد سرقة الثورة، والهدف هو إقامة «الشرق الأوسط الإسلامي» تحت حكم «الإخوان» بما يريح إسرائيل ويخلق توازنا مع إيران وتدخلاتها في الإقليم!

رابعة الأثافي كان «اتفاق الغفلة» مع إيران من وراء ظهر حلفاء واشنطن التاريخيين، وفي وقت تنخرط طهران في المذبحة السورية، وتفتعل المشاكل من البحرين إلى لبنان، مرورا بالعراق وباليمن وبالسعودية. والمثير أن واشنطن لم تفهم بعد الغضب العميق في الدول الخليجية والعربية من الاتفاق النووي، الذي بدا كمكافأة لسياسات التخريب الإيرانية في الإقليم أو على الأقل كتغاض عنها، في وقت كان أقل المطلوب فرض الانضباط الإقليمي عليها بالانفتاح قبل إمطارها بالغزل… وهو ما يحاول إغناتيوس أن يشرحه في المقارنة بين غورباتشوف الذي هدم ليبني، وأوباما الذي يهدم ولن يبني!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً