اراء و أفكـار

العفو والتسامح ليست مجرد شعارات

عبد الخالق كيطان*

لقد أثبت لجنة مانديلا أن العفو والتسامح ليست مجرد شعارات. حيث تلقت هذه اللجنة “حوالى سبعة آلاف طلباً للعفو، أغلبيتها من سجناء كانوا يعملون فى الأجهزة الأمنية والقمعية الحكومية وكانت لجنة أخرى من اللجان الفرعية التابعة للجنة الحقيقة والمصالحة – وهى لجنة العفو المستقلة ذاتيا.

والتى ترأسها قاضٍ فى المحكمة العليا- مسؤولة عن النظر فى هذه الطلبات والبتّ فيها. وجرى البتّ فى العديد منها على أساس الأوراق المقدّمة، من دون عقد جلسات، لكن في ألف حالة على الأقل، تمّ التوصل إلى قرارات حول الطلبات عقب عقد جلسات علنية أمام لجنة العفو”.

وتضيف الدكتورة ليلى الرحباني في مقالها المعنون: “اين نيسلون مانديلا العربي؟” بالقول: “حقق عمل اللجنة نجاحًا واسعًا لأنه أعاد اللحمة للشعب الجنوب أفريقي ويسّر له سبل التقدم مما جعل جنوب أفريقيا تتربع على العرش الاقتصادي والسياسي للقارة الافريقية”.

وفي العراق شكلت أكثر من لجنة بهذا الصدد للتعامل مع حقبة النظام السابق، ثم شكلت أخيراً لجنة “المساءلة والعدالة”. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى ذهني الآن: ما الذي حققته هذه اللجنة على صعيد صياغة السلم الأهلي؟ بإمكان رئيس وأعضاء هذه الهيئة، والمدافعين عنها، أن يردوا عليّ بمئات الوثائق المدعومة بالأرقام عن عمل هذه اللجنة، ولكنني لن أصدّقها، وسأعتذر كثيراً من هؤلاء السيادات والسادة على صنيعهم، ذلك أنني أبحث في الواقع أكثر مما أبحث في أوراق محدودة التداول، بل قل: محدودة التأثير على الناس وشجونهم.

ان من المؤسف جداً القول أن هذه اللجان العراقية لم تستطع أن تنجز شيئاً ملموساً سوى زيادة تأزيم أزمتنا المجتمعية. وبالعودة، على سبيل المثال، إلى خطابات قادة سنّة بارزين، وخطابات شيوخ عشائر من الطائفة ذاتها، وكذلك رجال دين، تكتشف أنهم جميعاً يردّدون أن هذه اللجان إنما صمّمت لاستهداف طائفتهم، فقط. تنامي مثل هذا الشعور بين أبناء نسبة كبيرة من أبناء الشعب العراقي يثبت بالدليل القاطع، وليس عبر وثائق لجنة المساءلة والعدالة، أن خللاً كبيراً ينخر في هذه اللجنة، وحوّل مسارات عملها من أن تكون ذراعاً لصنع التسامح وإنجاز العفو المجتمعي، إلى ذراع للثأر والانتقام بين أبناء الشعب الواحد. ولكن مهلاً: هل أراد المتنفّذون من قادة ما يسمى بـ”العراق الجديد” أن تكون لجنة المساءلة والعدالة مناسبة للعفو والتسامح وطيّ صفحة الماضي، أو الحقيقة، بكل آلامها وخساراتها من أجل الحاضر والمستقبل؟ لقد كشفت السنوات المنصرمة ان ذلك لم يكن واراداً في الحسابات، بل الأصح القول أن هذه اللجنة لم تكن سوى وسيلة ضغط وثأر.

ولأن العفو والتسامح ليست مجرد شعارات، فإن زعيماً مثل نيلسون مانديلا، ذلك المتوفي قبل أيام، استطاع في يوم جنازته، على سبيل المثال، أن يوحّد، ويجمع المتناقضات كلها. هل تصدقون أن أكثر من 100 زعيم من مختلف أنحاء العالم، حضروا مراسيم التشييع التي جرت في جو ممطر؟ والآن، بإمكان أي قارئ، شريطة أن لا يكون خبيثاً، التساؤل عن مراسيم التشييع التي ستجرى، بعد عمر طويل، لواحد من قادتنا التاريخيين، كيف ستكون، ومن الذي سيحضرها؟

مثل هذه الأمثلة ليست خارج المتن، أبداً، فلقد أثبت مانديلا، في حياته وفي مماته أيضاً، أن العفو والتسامح ليست مجرد شعارات. وإذ انشغل العالم، على سبيل المثال، بمصافحة عابرة في مراسيم العزاء، بين الرئيس أوباما والرئيس الكوبي راؤول كاسترو، فهو يعني، بشكل أو بآخر، استلهام لحظة العفو التي يؤسّسها مانديلا على حساب الحقيقة، فتدفع هذه اللحظة، بأوباما لتجاوز حال العداء القديم والتاريخي بين واشنطن وهافانا، بل والسموّ عليه.

ولأننا، في العراق، لا نريد أبداً تجاوز لحظة الحقيقة، بكل آلامها ومآسيها، ولأننا أيضاً غير معنيين بهذا البحر من الدماء الذي نعوم فيه اليوم، وغداً، فلقد قررنا أن يكون العفو والتسامح مجرد شعارات. شعارات يلقيها قادتنا على مسامعنا في كل لحظة، بينما يخططون في غرفهم المظلمة للثأر والثأر المضاد. غير معنيين مطلقاً بكل هذه الجراح التي نعاني منها، وهي جراح لن تكفي ضمادات العالم كله لمداواتها!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً