اراء و أفكـار

مانديلا.. عفة المعارضة والسُّلطة معاً

رشيد الخيون‎*

عاش أكثر المعارضات السِّياسية، عبر التاريخ، تناقضاً صارخاً بين خطابها كمعارضة وخطابها وهي في السُّلطة. يركز الخطاب المعارض على الكسب التنظيمي والدِّعاية، ووضع أهداف وآمال وغايات، تُعمر البلاد وتُغني العباد، لكن بعد السُّلطة يتغير كلُّ شيء.

ولم يبق مِن تلك الغايات سوى الصَّدى البعيد، فيأتي هدفٌ آخر: كيف الاحتفاظ والتنعم بنعمة السُّلطة؟! فلو قرأتَ التجارب القديمة مِن ثورات: الزُّنج، والقرامطة، والبابكية (القرن الثالث الهجري) ضد الخلافة العباسية لم تكن تمتلك وجهة تغيير خارج واقع الخلافة نفسها.

فالثائر ما أن يتحول إلى حاكم حتى تبدأ الثورة ضده، والعباسيون أنفسهم كانوا يتحدثون ضد ظلم أموي، واجتمع لهم جيش بهذا الخطاب، لكن بعد السُّلطة أخذت الثورة تأكل رجالها، والبداية بمنفذيَها الكبيرين: أبوسلمة الخلاَّل (قُتل 132 هـ) وأبومسلم الخراساني (قُتل 135 هـ)، لهذا عندما وصلت رسائل مدبريّ الثورة إلى الإمام جعفر الصَّادق (ت 148 هـ) قال لغلامه: «أدن السِّراج مني، فأدناه فوضع الكتاب على النار حتى احترق» (ابن الطَّقطقي، الفخري في الآداب السُّلطانية).

أرى أصدق وصف لرفض الصَّادق للسُّلطة هو ما أتى به محمد بن عبدالكريم الشَّهرستاني (ت 548 هـ)، قال: «مَن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شطٍّ، ومَن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف مِن حطٍّ» (الملل والنِّحل). فالعباسيون الذين وعدوا بالعدل قال فيهم أبوعطاء السِّندي (ت نحو 180 هـ): «يا ليت جُور بني مروان عادَ لنَّا… وإن عدلَ بني العباس في النَّارِ» (ابن قُتيبة، الشّعر والشُّعراء). ومَن يبدأ بقراءة تاريخ مظالم الدُّول، التي تأسست على أساس الثورات، لا ينتهي منها.

الحال بين المعارضات والسُّلطات لم يتغير، وعلى وجه الخصوص استخدام العنف، فمِن النَّادر إيجاد العِفة في المعارضة والعِفة بعد استلام السُّلطة، لأنه عندما يكون الهدف هو «جئنا لنبقى» أو «ما ننطيها» (نعطيها) لا يُحقق العدل، ويختلف الأمر عندما يكون هدف الثورة، على الحقيقة لا الادعاء، هو تداول السُّلطة سلمياً، وضمان بناء المؤسسات المدنية والقبول بالتنحِّي عندما تكون السُّلطة مشلولة، لا العِناد في البقاء بها بقوة ضمان مصالح دول أُخر، ولم يُنظر إلى مصلحة النَّاس، وبغداد في الوقت الحاضر مثال لما نقصده.

نيلسون مانديلا (1918-2013) عندما بدأ ثائراً كان في باله أمران: كراهية العنف والثأر وعدم شراء السُّلطة بتضحيته! لهذا كان صريحاً في موقفه مِن زوجته (ويني) عندما ظهر أنها متورطة بجرائم تعذيب وقتل (منذ 1988)، وهو ما زال في السجن، بينما لم يُلاحق الذين ارتكبوا جرائم في عهد الأبرتايد (التمييز العنصري)، وكان ذلك العهد شديد الوطأة على مانديلا وأسرته قبل غيره. لكن أن تتورط زوجته بالعنف وهما كانا يدعوان معاً إلى نبذه تلك مفارقة لا يتحملها ضمير نقي كضميره. فكانت النتيجة أنه لم يمنع ملاحقة زوجته قضائياً، وكان قادراً على ذلك، وأعلن طلاقه منها، مع أنها وقفت معه في زمن الشِّدة، ولها كفاح مشهود ضد الأبرتايد، أي في لغة الآخرين كانت «مُجاهدة»، ولابد مِن نيل الثمرة، وكان يمكن تبرير ممارستها بضرورات «الجهاد»!

لكن لو خضع مانديلا، الذي أعلن تخليه عن السُّلطة والسِّياسة عام 1999، للضرورات التي تبيح المحرمات، فيما نرى ونسمع، ما اهتز العالم لوفاته، وما أوقفت الأمم يوماً خاصاً له، ولتلوث تاريخه، وصار مِن طُلاب الثارات. لهذا وقف مانديلا مع سجانه ممسكاً بيده لبناء بلادهما، وضرب مثلاً في التسامح يندر مثله في التاريخ، عندما وجه الأكثرية لتحقيق شروط الجميع، لا أكثرية تُعز ولا أقلية تُذل.

أرى أن المعارضين المبتلين بجرائم لا يُنتظر منهم بناء بلدان ورفاهية شعوب. ليس بينهم وبين السُّلطة التي يعارضونها مِن اختلاف وتباين سوى أنها سُلطة وهم طلابها. إنه الأسلوب نفسه في الاستحواذ، والأمر يجري بين شيخ ومريده مِن دون أن يشعر الأخير أنه المريد النَّجيب لمَن عارضه. فالمعارضة التي لا تعف عن التفجيرات بفتوى «التترس»، لأجل قتل شخص ليُقتل المئة والألف، لا تترك توحشها وهي في السُّلطة!

أقول بلا تحفظ إن التجارب التي أمامنا، مِن المعارضة التي نالت بغيتها، والثوار الذين يسعون الآن لإسقاط أنظمتهم، لا يكونون أفضل حالاً مِن الأنظمة نفسها، فالقتل الذي يبرر باسم الثورة سيمارس باسم السُّلطة. لا نتجاوز الواقع إذا قلنا إن في حياة الإنسان المناضل، حقاً وحقيقة، مانديلا درس لو تمعن به أرباب «الجهاد»، هو أن يُعلن رفض الثأر، مهما كانت عظمة جريمة السُّلطة، لأن سقوطها ينهي أي مبرر لثأرٍ منها! لكن استيعاب درس مانديلا بحاجة إلى عقول وضمائر غير التي نناشد، فهي نفسها مارست الجريمة بتفجير واغتيال، وقضت العقود لخدمة أنظمة أُخر، فمتى يكون لديها الوقت لتفكر بمستقبل شعبها.

يبدو أن الطلب مِن معارضة كانت متورطة في جرائم، وفساد قبل نيل السُّلطة، غاية في الرومانسية، ولعل «مجاهدي» الثورات وسلاطين اليوم يضحكون مِن طلبنا هذا! ويقولون: مَن هو مانديلا، ونحن أبناء الذي قال: «نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أَظلم، كلُّ ما حولنا جاهلية» (قطب، معالم في الطَّريق). فمَن هو مانديلا بالنِّسبة لهم وتجربته حتى يدرسوها ويتعلموا منها كيفية نبذ عاطفة الثأر مِن أجل البناء والازدهار. لقد أخذوا أثمان «جهادهم»، دماً ومالاً ومناصبَ، وما زالوا يطلبون المزيد، إنهم رجال الزَّمن الغاشم تلاميذ نجباء لسُّلطة غاشمة، مِن حقهم ألا يعرفوا شخصاً اسمه مانديلا.

حقاً نقول، وبلا حرج، إن ماضينا وحاضرنا السِّياسيين، لم يلدا مانديلا، ثقل عليه أن يعيش مع زوجة خانت بممارسة العنف مبادئ الثورة التي قادها، وهذا ما لا يطلبه مِن خصمه، لأنه لم يكن صدىً له ولا ردة لفعله، مثلما هي معارضاتنا.

لقد تعرض مانديلا وشعبه لتمييز قاهر، ولنصيب الأصغر (ت 175)، وهو مِن أبناء جلدته، عندما تعرض لتمييز مشابه بسبب لونه، صرخة سابقة: «وإذا جهلت مِن امرئ أَعراقه… وقديمه فانظر إلى ما يصنع» (ابن المعتز، طبقات الشُّعراء). أقول: خطاب الثأر لا يبني أوطاناً! مِن عصر القرامطة إلى يومنا هذا، وبغداد شاهدة على الماضي والحاضر. فبعفة المعارضة والسُّلطة صار مانديلاً مثلاً يُقتدى به، لكن أين هم المقتدون!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً