اراء و أفكـار

قلم شريف وقلم مأجور

ملهم الملائكة*

نضحك اليوم لبعض الوصفات الموروثة من بداية عصر القومية العربية، ومرحلة التمرد على (الاستعمار)، مطلع القرن العشرين، فقد قالوا (القلم الشريف)، وهي مغالطة مظللة تسيء إلى كل صحفي، وتذهب بالقارئ إلى متاهات الوهم.

ولا أدري، هل هناك، حقاً، قلم شريف وقلم فاجر، وكيف روّج أصحاب تلك النظريات لهذا المفهوم؟ المقصود، طبعاً، وصف الصحفيين بهذا الترتيب.

من جانبي أفهم هذا الوصف باعتباره محاولة تسقيط للصحفيين الذين يقفون بالضد من الأنظمة، فهم، بهذا الوصف، (أقلام مأجورة)، فيما يُعَدّ المصفقون المروجون لنظريات الأنظمة (أقلاما شريفة).

الصحفي قلم يكتب للمؤسسة التي تشغلّه، وهو لا يستطيع أن يخرج عن سياستها قط، فإذا فعل فقد عمله. وهذا يعني أنّ الصحفي (قلم مأجور)، شاء أم أبى. وسيسارع المتعصبون، ولا سيما من صحفيي المقاهي الباحثين عن عمل، إلى مهاجمتي، نافين عن أنفسهم صفة الأقلام المأجورة. ولهم أقول: من يرد أن يقول رأيه ، يغادر صفة الصحفي، ويصبح كاتبا. الصحفي ينقل الحقائق، ولا يعلّق عليها. أما الكاتب فيعلن رأيه في الحقائق، ويسعى أن يحشد القارئ إلى جانب هذا الرأي، دون أن يتروى وينظر إن كان الرأي أحاديا، وحتى متحاملا أو مغلوطا. بهذا الوصف، أكتب هذا المقال الأسبوعي بصفتي كاتبا، وليس بصفتي صحفيا.

لماذا خسر (صوت العروبة) وظيفته؟

وحين نسمع أنّ فلان الفلاني، الذي كان يرأس تحرير واحدة من أكبر الصحف العربية المستقرة في أوربا، غادر منصبه فجأة، علينا أن نبحث عن تغيرات السياسة التي دفعت بممولي تلك الصحيفة إلى إبعاد رئيس تحريرها الشهير بدفاعه عن صدام (البطل الشهيد)، وعلينا أن نسأل: إذا كان الصحفيُّ الكبير صاحبَ قلم شريف، فلماذا سكت قلمه الفذ حين انقطع المدد المالي؟ أي شرف هذا الذي يرتبط بالمال؟ أليس هو قلماً مأجوراً، إذن؟

الكتّاب والصحفيون الذين يعيشون وهمَ (شريف) و(مأجور) يمضون جلّ حياتهم عاطلين عن العمل، لأنهم لا يفقهون أصل وظيفة الصحفي، وفي النهاية تراهم يصبحون أدباء، وكتّابَ قصة، وروائيين، يعملون لحسابهم الخاص. لكن المشكلة الكبرى التي تواجههم أن لا أحد يقرأ كتبهم الأنيقة الغالية.

وتصلني دائما كتب كثيرة مهداة من كتّابها، وأنا الذي قاطعت شراء الكتب منذ مطلع الألفية الثالثة بانتشار النت والكتب الإلكترونية، وما عدت أملك وقتا للقراءة خارج محيط السايبر. مع ذلك، تضم مكتبتي اليوم أكثر من ألف كتاب، كلها هدايا تحمل إهداء أنيقاً من كتّابها.

ولا بد أن تسألوا هنا: لماذا يُرسل أصحاب (الأقلام الشريفة) كتبَهم الأنيقة إلى الصحفيين؟

أليس السبب هو بحثهم عن (قلم مأجور) يروّج لأقلامهم (الشريفة) ونتاجها الذي لا يهتم له أحد؟

عدو إسرائيل داعية التطبيع!

قبل بضعة أعوام، تحدثتُ على الهاتف إلى كاتب عراقي نصف معروف يعيش في فرنسا، لأعرض عليه المشاركة في حوار إذاعي أديره كل أسبوع في الإذاعة الألمانية. وحين قلت له إن محاوره الآخر سيكون فلان الفلاني، قال بحدة: “هذا كاتب يروج للتطبيع مع إسرائيل”. قلت له: “وأنت سترد عليه، فأنت من دعاة اللاتطبيع”. احتدّ مرة أخرى، وقال: “لن أظهر مع هذا الكاتب على الهواء”، فانصرفت عنه إلى متخصص آخر لا يترك العواطف تسيّر قلمه.

اليوم، ما عاد أحد يسمع بصاحبنا الفرنسي العراقي الكاتب (الشريف)، صاحب دعوة اللاتطبيع، لأنه غيّر اسمه، وصار يكتب باسم مستعار في أشهر صحيفة تدعو إلى التطبيع والمصالحة في الشرق الأوسط، ويموّلها بالطبع البترودولار.

عود على أول المقال: الصحفي يكتب ما تمليه عليه المؤسسة التي توظف قلمه، وليس ما يمليه إحساسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً