ثقافة وفن

رافع الناصري.. يرحل في فجر جميل

rafea-alnaseri

علي عبد الامير عجام*

كأنه ورفيقة عمره، وأحد اقرب تلامذته الى نفسه، اختاروا احتفالا خاصة للرحيل… رافع الناصري يغلق عينيه في فجر السبت السابع من كانون الاول (ديسمبر) بالعاصمة الاردنية التي احبها ورشقها بالكثير من ورد فنه وابداعه. فقبل نحو اسبوعين كانت عمّان تحتفي بالناصري عبر معرض استعادي، وثّق خمسين عاما من تجربة منذورة للجمال النادر، وكان منظورا بصريا معاصرا قلّ نظيره في الامتاع والعمق والتجدد، كأنه كان على النقيض من تحولات بلاده ومجتمعه وثقافته، فهو يمضي الى اقصى الجمال الصافي بينما تمضي بلاده الى وحشة وقسوة وفظاظة تامة.

احتشد محبوه واصدقاؤه ومريدوه، كان يبتسم عبر نظرات خاصة تلتمع بها عيناه، وهي تقع على كل صديق، كل من عرف واحب وعاش معه تجربة الحياة والفن، كان ينهض رقيقا من مرضه العضال، كأنه يشهق بالعرفان والمودة والرضا والامتنان. كان الحدث مرسوما باناقة بالغة، فيه الكثير من روح رفيقته وزوجته الشاعرة والناقدة مي مظفر، وعمل من اجله بجهد ودأب قل نظيرهما، تلميذه الرسام خالد رحيم وهل، الذي سافر الى بغداد مستعيدا الكثير من مقتنيات الناصري، واعماله التي امتدت على رحابة التجربة التشكيلية العراقية والعربية المعاصرة، ثم انشغل بترميم اللوحات والاعمال الغرافيكية والتخطيطات والعناية بها والتخفيف مما قست عليها وقائع العراق.
معه يصفو صخب العراقيين
جاء للاحتفال بعقود عمره السبعة التي كونته انسانا نادرا في لطفه الحميم، وبخمسة عقود من فنه الرفيع، عراقيون من مذاهب ومسارات فكرية شتى، حتى بدت امسية افتتاح معرضه الاستعادي، حدثا يصفو معه ماء العراقيين الكدر في لحظة نادرة تجمعهم الى انسانية مهددة فيهم. جاء ملكيون وجمهوريون، تجار ومثقفون صعاليك يبحثون عن ضالة الامان بعيدا عن مدينتهم المخيفة، دبلوماسيون هادئون ومثيرو ازمات، اكاديميون خبروا المعرفة وتلاميذ تهدمت عندهم اليقينيات والافكار الثابتة.
كان احتفالا يتصل بالجمال الذي اندرج فيه الناصري، وفق نسق من حداثة لم تنقطع عن مصادر خلاقة في ثقافته العربية، فهو حين يؤكد على ” معاصرته”، انما ظل يتصل بعلاقة فكرية وادبية رفيعة في التراث العربي، بل هو لخّص مسارا من الوعي بأهمية الفن في التعبير عن الزمن  وطبعه بلمسات انسانية .
وما يحسب للناصري، الذي صارت مسيرته الفنية، علامة على ابداع عراقي وعربي في فن الغرافيك ( الحفر ) ومعارضه في غير عاصمة عربية وغربية مؤشر على ذلك،  انه ادخل عمله الفني، ضمن مسار ليس صعبا الاشارة الى عناصر الاختراق فيه عما سبق . فاذا كانت لوحة الناصري معروفة باتصالها مع دلالات الافق المفتوح وقراءة تطوراته البصرية المتسمة بالسعة والامتداد، فان ” المزاج الاشراقي” بدا مميزا لاعماله في العقد المنصرم، فظل يتلمس تأثيرات العصر وتقلباته بوعي وادراك عميقين،  ويتحسب لبواعث الفكر الحي، فلوحته تظل معاصرة، في الاسلوب والتنفيذ والرؤية ايضا، مؤكدا ان كل معرض جديد لا يشكل انفصالا عن كامل تجربته، بل هو استمرار التطور في الشكل واللون وبقية العناصر.
ردع الخراب 
لم يكن يائسا اللهم، الا من حال بلاده، بل ان الغزو الاميركي شكل مقتلا حقيقيا لبغداده الشخصية التي كان يباهي بجماله الروحي الفريد، وهو ظل يواجه مقولة انحسار قدرة الفن التشكيلي على التأثير في الذائقة الفنية،  وخفوت الدور الجمالي التحريضي للتشكيل بقوله لكاتب السطور: “في تصوري، هناك سببان لمثل هذا الخفوت في الدور الجمالي، الاول ويتصل بالحال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي شهدت تراجعا منذ اكثر من 20 عاما والثاني هو في انحسار اهتمامات الفنان الفكرية في الوقت الذي كان فيه محرضا على نشر الوعي الفني” .
كان يرى الضعف في قدرة العمل الفني التشكيلي على الاتصال مع المتلقي، بينما كانت اعمال فنية عميقة قادرة على اقامة صلة مشتركة مع جمهور عريض قبل ربع قرن او اكثر، عائدا  الى ان ” كل الافكار والمعتقدات ومنها السياسة، كانت اصيلة وتابعة من ادراك وفهم عميقين ،ومن صدق روحي ايضا . الان تحول كل شيء الى نتاج مستعمل ” سكند هاند ” لا اصالة فيه، ومنها الفنون،  وباتت الاشياء الحقيقية نادرة جدا، كل شيء اصبح سلعة للبيع، ومنها افكار الفنان ” .
ظل الناصري ، ومع احساسه  بمرارة تقارب اليأس، عصيا على الانكسار، بل ظل يؤكد ” نعم اشعر بكثير من الالم، ولكن ليس الانكسار على الاطلاق، وما تزال هناك على الرغم من الصحو الاجرد لأوقاتنا، غيوم تحمل الكثير من زخات المطر، بما يفيد الزرع  ويحيي في الارض روحها الخضراء “.
ويرى صاحب التجربة الغرافيكية اللافتة عراقيا وعربيا وعالميا والتي اهلته ان يكون مشاركا في اكثر من حدث دولي بارز وعبر معارض فنية امتدت على عواصم عدة، ان “ملاذ الانسان اليوم، وعربيا بالتحديد، يقوم على قدرتنا في تعزيز البناء الداخلي  للانسان، ان تكون اقوى في مواجهة التهديد الصاخب الخارجي، فكلما كنا هشين داخليا، كلما اصبح امر مواجهتنا للتهديد الخارجي ضعيفا “.
هذه الروح من الدأب ومناكفة اليأس كانت تتجلى لا في عمله الفني المحض، بل في نشاط اكاديمي رصين، فهو استاذ الفنون لسنوات في بغداد يوم كانت الثقافة عمودا اساسيا من اعمدة بنائها المعاصر، واستاذ في اكاديميات الاردن والبحرين، مثلما هو صاحب المراجعة النقدية الفنية المهمة في اكثر من كتاب، وهو نشاط ظل متصلاً بمشروع الناصري الجمالي والثقافي الشديد الخـصوصية والتفرد، مثلما كان امتداداً لسيرة من تأصيل الحداثة الفنية بروحية محلية وأشواق تنبثق من لحظة راهنة لتعبر الى “مابعد الزمن”( عنوان معرضه العام 2010) محلقة بأجنحة مخضبة بالآمال ومشاهد تنفتح على الروح البشرية في صعودها وانكفائها.
وفي حين يكتب الناصري: “في الغربة ومع تقدم سنوات العمر، يتداخل الزمن تلقائياً ما بين ماض وحاضر، وقديم وحديث، حينها تتوالى الصور والذكريات”، فانه كان يقصد الإشارة الى عمله القائم على “طواف بين ازمان وحالات مختلفة تتغنى بالوطن والحب والجمال”، وفق رؤية شخصية لفكرة عبور الأزمنة في عمل جمالي محض يتجلى في الرسم تارة والحفر الطباعي (الغرافيك) تارة اخرى.
بغداد: “اندلسه” الضائعة
درس رافع الناصري الفن، في بغداد وبكين ولشبونة، وكان عضواً مؤسساً في بغداد لـ”جماعة الرؤية الجديدة” التي برزت في ستينات القرن الماضي وتأثرت عميقاً بمقترحات ذلك العقد الصاخب فكرياً وفنياً، ومثلما احتضنت بغداد مشروعه الشخصي في الرسم او الحفر الطباعي، فانه اورث اجيالا من الحفارين العراقيين والعرب اسرار فن الغرافيك المعاصر بتأثير من معرفته وإشرافه الشخصي في محترفات ومعاهد وأكاديميات، وكلما بدت مدينته الاحلى وقد نأت عنه، الا انه ظل ينشد لها اغنيته الخاصة، كأنه كان يتصل بأندلس “راهنة” ضائعة مبددة هي بلاده وأشواقه اليها.
ما كان يؤرق الناصري كسؤال وانشغال عن وطنه وحياته وابتعاده القسري عن مكانه الذي يحب ان يعيش فيه وينتج ويقترح، لم يفت في عضد مشروعه الجمالي، فثمة الانغماس اكثر وأكثر في التعبير عن ذلك الشوق عبر العميق والغني والمدهش في الرسم، ودائماً بأناقة تطاول الترف، حتى ان عدداً غير قليل من اعماله الاخيرة بدت مفرطة في الأناقة والشفافية والرقة، وهو ليس بالغريب على من ظل وبلا هوادة يردع القبح بكثير من الجمال.
صباح مشمس ومكان في “مقبرة سحاب”
مثلما رافقته في رحلة الجمال ومسرات النجاح، كانت زوجته و صديقته مي مظفر عميقة الروح قوية الفكرة ثابتة في قبول المصير، حين رافقته في رحلة المرض العسيرة، مثلما هي في صباح السبت الدافىء ، حرصت على رفقة جثمانه لتقف عند حافة مكان محفور كجرح في “مقبرة سحاب” بضواحي عمان، وتتطلع الى جوفه متسائلة: كيف لهذا القبر ان يضم حياة بكل هذا الضوء؟
قبر رافع الناصري في مكان بعيد عن مدينته… جرح عميق آخر في سيرة عراقية مخيفة.
* شاعر وناقد فني عراقي والمقال عن “الاخبار” اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً