ثقافة وفن

القصة القصيرة.. هل أصبحت من الماضي؟

4444
لندن: ماهر شفيق فريد*
من الأقوال الشائعة في عصرنا هذا – شرقا وغربا – أن عصرنا الحالي هو عصر الرواية، وأن غيرها من الأجناس الأدبية قد تراجع إلى الخلف – بما في ذلك القصة القصيرة – وذلك لقدرة الرواية بحكم امتدادها في المكان والزمان على الإحاطة الشاملة بشتى جوانب الخبرة الإنسانية، وإمكانية استيعابها لغنائية الشعر ودرامية المسرح، وومضات الأقصوصة، واستطرادات المقال.

وممن روجوا لهذه المقولة في نقدنا العربي: علي الراعي وجابر عصفور وسامي خشبة وغيرهم. حتى أصبح ما يقولونه عن أفول نجم القصة القصيرة من المسلمات أو يكاد. والكتاب الذي نعرضه هنا محاولة لرد الاعتبار إلى القصة القصيرة، هذا الفن الجميل الصعب الذي بلغ به موباسان وادغار بو وتشيخوف وغيرهم ذرى رفيعة في القرن التاسع عشر. ولم يعدم في عصرنا قمما من طراز جويس وكاثرين مانسفيلد وهمنجواي. إنه كتاب «القصة القصيرة في اللغة الإنجليزية» لمؤلفه أدريان هنتر المحاضر بجامعة سترلنغ البريطانية (الناشر: مطبعة جامعة كمبردج).

ويمتاز الكتاب بجمعه بين النظرية والتطبيق، فهو يدرس القصة القصيرة شكلا وأسلوبا وتقنية في إطار حضاري أوسع ويسلط بؤرة اهتمامه على قرابة عشرين كاتبا وكاتبة مختلفي الجنسيات (جوزيف كونراد البولندي المولد، كاثرين مانسفيلد النيوزيلندية، أليس مونرو الكندية «الفائزة بجائزة نوبل للآداب لهذا العام»، مارجوري برنارد الأسترالية، تشنوا أتشيبي النيجيري، إلخ..)، وكلهم يشتركون في أنهم يكتبون باللغة الإنجليزية ومن ثم يعد أدبهم – على اختلاف أصولهم العرقية – جزءا أصيلا من الأدب الإنجليزي.

والدعوى التي يسعى الكتاب إلى إثباتها هي أن القصة القصيرة جنس أدبي قادر على البقاء في وجه أي منافسة، وقد أثبت فعلا هذه القدرة. إنه ليس من مخلفات الماضي ولا يمكن أن ينوب عنه أي جنس أدبي آخر. ومما يشهد بذلك صدور عدد من الكتب النقدية المهمة عن أصول هذا الفن وتطوره، في طليعتها «القصة القصيرة في اللغة الإنجليزية» لوالتر ألن، و«القصة القصيرة الحديثة» لـ«هـ.أ.بيتيس»، و«الصوت المنفرد» لفرانك أوكونر (ترجمة إلى العربية د.محمود الربيعي)، «القصة القصيرة» لألن ريد (ترجمة إلى العربية د.منى حسين مؤنس)، وغيرها.

وفي مقدمته للكتاب يورد المؤلف رأي القاصة الآيرلندية إليزابيث باون، التي تذهب إلى أن القصة القصيرة ابنة لعصر السرعة الذي نعيش فيه، وأنها تعكس إيقاعات الحياة الحديثة. إنها – كالسينما – من مواليد القرن العشرين. وهي كالفيلم تروى قصتها لا من خلال العرض المفصل – كما هو الشأن في فن الرواية – وإنما عن طريق سلسلة من الإيماءات المضمرة على نحو حاذق مستخف، واللقطات السريعة واللحظات الموحية، حيث إن القصة القصيرة – نظرا لطابع السرعة الغالبة عليها – فن أميركي بوجه خاص، حيث الناس «يتكلمون على نحو أسرع، ويتحركون على نحو أسرع، ويفكرون في ما يظهر على نحو أسرع». ينقسم كتاب هنتر المرتب زمنيا إلى مقدمة، فأربعة أقسام هي: القرن التاسع عشر، القصة القصيرة الحداثية، قصص ما بعد الحداثية، قصص ما بعد الكولونيالية وغيرها، وينتهي بهوامش، وقائمة مراجع لمن يرغب في المزيد.

ممن يتوقف عندهم المؤلف في حديثه عن القصة الحداثية الأديب الآيرلندي جيمز جويس (1882 – 1941) صاحب المجموعة القصصية «أناس من دبلن» (1914). في قصته المسماة «إيفلين» فتاة تتردد في أن تهجر حياتها الرتيبة المملة، وتهرب مع حبيبها الذي يريد الزواج منها إلى بلد آخر. لكنها في آخر لحظة – إذ توشك السفينة على الإقلاع – لا تواتيها الشجاعة على قطع جذورها بماضيها فتبقى. هذا نموذج للواقعية النفسية التي تضيف إلى الملاحظة المادية الدقيقة عنصرا جديدا هو تتبع خواطر الشخصية، مما يؤذن بأسلوب المونولوج الداخلي والأسلوب الانطباعي اللذين برع فيهما جويس، وبلغ بهما القمة في روايته «يولسيز» (1922).

ويتوقف هنتر عند رائدة أخرى من رواد المونولوج الداخلي هي فرجينيا وولف (1882 – 1941) في قصتها المسماة «رواية لم تكتب» (لها ترجمة عربية بقلم فاطمة ناعوت). تصور القصة مقابلة بين راوية لا تسميها الكاتبة وسيدة عجوز تجلس أمامها في عربة قطار. وتحاول الراوية أن ترسم في خيالها صورة لتاريخ هذه السيدة وما مرت به من خبرات، وكأنها شخصية في رواية تريد الراوية أن تكتبها. إنها تمنح السيدة اسما من عندها: ميني مارش.. وتدرس ملبسها وطريقتها في التصرف ووجهها وما تنتعله في قدميها ودبابيس قبعتها. وتنتهي الراوية – في ثقة – إلى أنها قد حلت لغز السيدة متخيلة عددا من السيناريوهات تكون فيها السيدة، مثلا، ارتكبت جريمة، وأصبحت موضوعا صالحا للتحليل النفسي. وحين تهبط السيدة من القطار ويكون ابنها في انتظارها ينهار السيناريو الذي رسمته الراوية. وتنتهي القصة بإقرار هذه الأخيرة أن المواضعات القصصية التقليدية تعجز عن النفاذ إلى أسرار قلب الإنسان. «من تراك تكونين؟ لماذا تسيرين في الشارع؟ أين ستنامين الليلة ثم غدا؟».. هذه كلها أسئلة تطرحها الراوية على ميني مارش ولا تجد لها إجابة. فالسيدة العجوز تظل فريدة، غامضة، تستعصي على تقنيات التحليل النفسي، أو الواقعية الاجتماعية، أو قصص الإثارة والترقب.

وكاثرين مانسفيلد (1888 – 1923) كاتبة أخرى حداثية وصفت بأنها تلميذة تشيخوف النجيبة، لكنها تمكنت من الخروج من إزاره ليكون لها صوتها الخاص. في أقصوصتها المسماة «سعادة» (نقلها إلى العربية د.رشاد رشدي في كتابه «فن القصة القصيرة») البطلة تدعي برثا ينغ سعيدة في زواجها من هاري المرح المملوء حماسة وحيوية، لكن سعادتها تتقوض حين تكتشف أنه يخونها مع إحدى المدعوات في حفلة تقيمها، وهي سيدة جميلة غامضة تدعي بيرل فولتون. وتظل الطبيعة – ممثلة في شجرة الكمثرى المزدهرة في حديقة بيتها – صامتة لامبالية بدرامات البشر، سعيدة كانت أو شقية.

وصامويل بيكيت (1906 – 1989) الذي اشتهر أكثر ما اشتهر بمسرحياته العبثية «في انتظار غودو» و«لعبة النهاية» وغيرهما، قد أدلى هو الآخر بدلوه في ميدان القصة القصيرة. لقد تأثر بجويس (وهو آيرلندي مثله) لكنه تميز برؤيته التشاؤمية للوجود الإنساني وفكاهته المريرة الأسيانة، بل السوداء. انظر مثلا إلى قصته المسماة «دانتي وسرطان البحر» أولى قصص مجموعته القصصية «وخزات أكثر مما هي ركلات» (1924). تبدأ القصة وبطلها المدعو بلاكوا يحاول أن يفهم بعض الأبيات من ملحمة دانتي «الكوميديا الإلهية» – أبيات تشرح فيها بياتريشي في الأنشودة الثانية من «الفردوس» السبب في أن القمر يضم بقعا مظلمة. وترد في القطعة كلمة «شفقة». وفي فترة لاحقة من اليوم يسأل بلاكوا معلمته في اللغة الإيطالية عن معنى القطعة فتقول له إنها مثيرة للخلاف، وإنها سترجع إلى مراجعها ثم ترد على سؤاله. وقرب نهاية القصة يتجه بلاكوا إلى بيت عمته ويصدم حين يجد أنها ستطهو سرطانا بحريا بأن تغليه حيا. وها هو ذا «صليبي الشكل على القماش المزيت.. ما زال أمامه نحو ثلاثين ثانية من الحياة». وتنتهي القصة على هذا النحو:

«حسنا – هكذا فكر بلاكوا – إنه لموت سريع. فليعنا الله جميعا. إنه ليس كذلك».

هكذا تكتسب كلمة «شفقة» – التي كان بلاكوا يفكر فيها – معنى جديدا أشبه بالتورية الساخرة. لا شفقة هنا، وإنما الوجود الإنساني لا يعرف الرحمة. القوي يأكل الضعيف، في عالم البشر كما في عالم الأسماك.

والخلاصة التي نخرج بها من كتاب أدريان هنتر هي أن القصة القصيرة لم تمت، ولن تموت. إنها جنس أدبي يظل محتفظا بجوهره الباقي: لحظة ذات دلالة تومض لبرهة قصيرة في ظلمة الوعي وتزيدنا بصرا بأنفسنا وبالآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً