اراء و أفكـار

مهاجر وطني.. مهاجر خائن

علاقة الوطن بالمهاجرين، والمهجر بالمواطنة، تبقى ملتسبة غير واضحة. وحيث تتشابك تلك العلاقة، يصبح تمييز الخطأ من الصواب قريبا من المحال، وقد حاولت التمييز بين عراقيين إستوطنا المهجر، فولدت هذه القصة.

مهاجر خائن

في تشرين أول/ اكتوبر 2008، أقيم في باريس معرض للطائرات الحربية، وفي ظهيرة يوم خريفي نصف ماطر كنت أذرع شارع الشانزلزيه، الأشهر في العالم، متخطيا صفوف الاشجارعلى جانبيه لأصل الى ساحة العرض وهي تواجه مسرح روبرت حسين الشهير واكتب مقالا عنه، لينشر فيما بعد بثلاث لغات في وقت متقارب.

لم يكن الزحام شديدا فقد انتهت تقريبا زيارات الراغبين في شراء الأسلحة (وهم غالبا مسؤولون من دول العالم الثالث). أجريت بضعة لقاءات مع عارضين وزائرين والتقطت عشرات الصور، ثم فاجأني صوت عراقي يناديني باسمي.

رجل في منتصف اربعينياته، يرتدي بزة سوداء، ويضع على صدره باج العارضين والعاملين في المعرض. اقتربت منه وحاولت أن أتذكره، فكان هو السبّاق، واعادني الى تاريخ قديم فارقته منذ أكثر من 25 عاما. فقد كان صديقا لأخي الأصغر، ومن جيراننا. عمل مهندسا في وزارة التصنيع العسكري منذ أواخر الثمانينات حتى عام 1994، حيث هرب من الحصار الإقتصادي وعصابات حسين كامل وزبانية قصي ليلجأ الى فرنسا ويعمل في شركة تطور صواريخ اكزوزيست.

جلسنا في نصف كرفان خصص للأستراحة، فوضع عامر بين يدي فنجان شاي كبير، وصار يحدثني عن العراق بشوق جارف. سألته إن كان راغبا في العودة، تنهد وهو يقول نعم، ثم استدرك باسماً: “ولكن هذه مجرد أمنية لا أسعى لتحقيقها، ربما أذهب لزيارته إذا هدأت الأوضاع هناك، فأنا لم أره منذ 19 عاما”.

أخذنا الحديث الى وضعه، ضحك وهو لا ينظر في عيني، مشيرا الى أنه يتقاضى نحو 8 الاف يورو في الشهر، وزوجته المغربية الفرنسية تعمل في مكتب لشركة رينو ويمتلكان هنا بيتا صغيرا، وسيارة كبيرة جديدة، وأولادهما في المدرسة العالمية كي يتقنوا الفرنسية والأنجليزية وهي لغة العالم اليوم، كما يستحق وزوجته بعد أعوام راتبا تقاعديا لابأس به.

ناجح اذن، ولا يرغب في العودة. وماذا لو عرض عليه العراقيون وظيفة براتب مغر؟

ضحك وهو يقول: “لا أفكر بالعودة قط، ما عدت أستطيع الحياة هناك، لقد صرت جزءا من فرنسا، وباريس تشكل نصف حياتي”.

افترقنا بعد ربع ساعة، فهو يؤدي عمله، وأنا أقوم بعلمي وعليّ أن أدرك الطائرة غروب ذلك اليوم.

بانتظار طائرتي في مطار شارل ديغول، أخذني التفكير الى عامر. لو شاركت فرنسا في حرب ضد إيران، فسيدخل العراق الحالي الحرب ضد فرنسا الى جانب ايران، وعند ذاك، قد تقصف طائرات فرنسية أقارب عامر في بغداد وقد تقتل بعضا منهم، هل عامر الناجح الودود الذي صنع صواريخ تلك الطائرات مهاجر خائن لوطنه؟ أم أنه مهاجر مندمج في فرنسا، محب لها، منتم لقيمها، وبالتالي هو مهاجر وطني يحب البلد ألذي آواه وانقذه من بطش الديكتاتور وزبانيته؟

مهاجر وطني

في منتصف عام 2005 أخذ يصلني كل يوم من محمود الـ . . . ايميلات عن نشاط الجالية العراقية في السويد، واجتماعاتهم وفعالياتهم لدعم العراق فيما يسميه (الخروج من محنة الاحتلال)، ساعيا بتظاهرات يحضرها بعض الأحيان 10 أشخاص لإنهاء مشروع الشرق الأوسط الجديد على طريقته.

حاولت أن أتعرف على محمود هاتفيا عن كثب فكان يتملص مني ويتجنب الحديث المباشر معي. ثم زرت ستوكهولم لتغطية (مؤتمرالعهد الدولي مع العراق) عام 2009، فرأيته يرفع ورفاقه العشرون لافتات وقد تجمعوا أمام صالة المؤتمر. اللافتات كتبت بالإنجليزية والعربية (وليس فيها أي جملة بالسويدية) والمتظاهرون كانوا يهتفون: ” كلا كلا للمحتل، كلا كلا امريكا”. ولم أقترب منه وهو في أوج نضاله.

عام 2010، عُين محمود بوظيفة مرموقة في إحدى الوزارات العراقية، وبما أنه لا يريد أن يخسر الإعانات المالية التي تدفعها السويد لعوائل العاطلين عن العمل، والمساعدات الخاصة باللاجئين وتلك الخاصة بالأطفال، فقد ترك عائلته المكونة من أبنائه الأربعة وزوجته مديرة المدرسة القرآنية بمسجد (…) في استوكهولم، والتحق بعمله وهو يهتف: “كلا كلا أمريكا”.

الرجل يتقاضى اليوم نحو 4 الاف يورو من الحكومة السويدية، ونحو 4 الاف دولار من الحكومة العراقية دون ضرائب.

هل نعتبر محمود الـ . . . مهاجرا وطنيا؟ فهو يخدم وطنه بعد أن طرد بنفسه (الاحتلال) وهو (يستفيد) من حكومة الدولة الكافرة السويد بالإنفاق على عياله، و(يستفيد) من تسهيلات تمنحها الحكومة العراقية لموظفيها فيسافر دائما الى أهله في السويد على نفقة الدولة، وهو قد عاد الى العراق (ليخدم الشعب) ويصير مواطنا صالحا. وهو يحن الى العراق ويحيي كل مناسباته الدينية والوطنية، وهو يشارك العراقيين أفراحهم وأحزانهم، لكنه يحمل جنسية بلد لا يحبه هو السويد، ويفضّل أن يكون خائنا لهذا البلد الذي أنقذه من سلطة الطاغية ومنحه الحياة، ما دام في العراق فرصة للعمل والثراء.

احمد الـ . . . مهاجر وطني أمضى في السويد 17 عاما، ولم يتعلم من اللغة السويدية سوى 300 كلمة يتجول بواسطتها في الأسواق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً