ثقافة وفن

(بابلُ المنفـى . . . بابلُ المـراثي)

2322358_hameed khakani 2

هذه القصيدة كتبتها في شباط 1998 . كنت في الطريق عائداً من الكلية التي أعمل فيها إلى البيت، وكانت صواريخ واشنطن البعيدة المدى قد سقطت قبل يوم على بغداد، آتية من خليج العرب! (لم يكن طاغيتنا، آنذاك، رحيماً بهؤلاء العرب كذلك). وكنت، كما العادة، أتأمل، حين أخلو لنفسي، في أحوال البلاد وأحوالي، وفجأة، ودونما وعي مني، بدأت أغني، بصوت مسموع، مقطعَ القصيدة الأول بسطوره الثلاثة. حين توقفتُ أدركت بأن عشرين عاما قد مضت، حقاً، على عيشي في المدينة التي أصبحت لي ولعائلتي موطنا، لا وطناً، في وقت لم يعد فيه الوطن الأول وطناً، أو حتى موطناً.

منـذ عشرين عاماً تجوبُ المدينـةَ،
لا أهلها ألـفوا وجهَكَ المسـتريبَ،
ولا الطـرُقاتُ خطاكَ، كأنك لم تأتِـها أبـداً.
. . . . . . . . . . .
هـذه مُـدُنٌ تُنكِـرُ الغـرباءَ، وتجهلُ حتى بَنـيها،
فكيفَ شَـدَدْتَ الرحـالَ إليهـا،
خَلَعتَ على البابِ خُـفَّيْكَ مثلَ دروايش بابلَ إذ يَلِجـونَ التكـايا،
وها أنتَ تهـرَمُ تحتَ شـتاءاتها،
بعـدما نالَ منكَ العَـناءُ، وطالَ السُـرى،
وغَـدا كلُّ شـيئٍ بعـيداً،
غَـدا ماضـياً لا يعـودُ،
فيا ليتَ بابلَ ما انطفأتْ،
ليتَ أهلَكَ ما بَعُـدوا،
والمراكبَ ما نَشَـرَتْ للرحيـلِ القلـوعَ،
وليتَ الذي كانَ ما كانْ.
. . . . . . . . . . .
ما الذي كانَ حتى نزلتَ بأرضٍ يَعِـزُّ الخليلُ بها؟
أتُراكَ حَسِـبتَ المقـامَ بها نعمـةَ الربِّ جاءت إليك على غيرِ وَعـدٍ؟
فيا طلما ارتفعت بالـدعاء يـداكَ،
وها هي تأتيكَ ملأى بمَـنِّ الكُـروبِ وسـلوى الأسـى،
تتفَـيَّأُ أشـجارَه العاريـة.
. . . . . . . . . .
آهِ لوكنتَ ألقيتَ رحلَكَ في بلـدٍ غيرِ هذِهِ.
. . . . . . . . . . .
كلُّ البلادِ تَشـابَهُ أحوالـها بعدَ بابلَ
. . . . . . . . . . .
لكنَّ بابلَ توغِلُ في البُـعْدِ
نائـيةً عنكَ،
حتى بَـدَتْ لكَ بابلُ خارجَ هـذا الزمـانْ.
. . . . . . . . . .
والبلاد، سِـواها، تَشـابَهُ أحوالُـها،
لن تجِـدْ حيث يَـمَّمْتَ وجهَكَ غيرَ الصَقيعِ،
وغيرَ الضـبابِ،
وغيرَ الخـلاءَ الكبير،
كأنَّ الـدُنى، دون بابلَ، برْزخٌ ليس فيه سـواك،
تضيعُ الدروب به، والليالي تطولُ،
وأنتَ تَحارُ نزولاً، وتخشى رحيلاً،
فقـد تاهتِ الروحُ فيكَ،
وتاهَ الدلـيلُ،
وأنت تجوبُ المدينـةَ عشـرينَ حَولاً،
وتُصْغي لوقْـعِ خطاكَ ورَجْـعِ الصـدى،
لستَ تـدري لهـذي الطرقاتِ حَـنايا،
تعود إليها إذا هَزَّكَ الشـوقُ،
أو جاءكَ الغَـمُّ من غَيْهَبٍ ما تزالُ الأسـاطيرُ تسـكُنُهُ،
والمراثي التي قالها الأقـدمون،
وما فَتِئَتْ نسـوةُ الحيِّ مُفْتَرشـاتٍ بلاطَـهُ،
يَنْقُشْـنَ أدعـيةً فوق أحجـارهِ،
باسِـطاتٍ أكُـفاً علاها الرمـادْ
. . . . . . . . . . .
نسـوةُ الحيِّ يأتينَ ليلاً إليكَ،
يُحِطْنَ بمَهْـدِكَ قد عادَ نَعْشـاً،
ويُلْبِـسْنَ بابلَ ثوبَ الحِـدادْ.
. . . . . . . . . .
ها هو المـوتُ يُطْبِقُ أسـوارَهُ حول بابلَ،
وهي تُحَـدِّقُ صـامتةً
كيف تمضي إلى موتـها،
كيف تهوي، مُخَلِّفَـةً أفُقـاً غارقاً بالسَـوادْ.
. . . . . . . . . . .
وثواكِلُ بابلَ يركضنَ في عتمـةِ الموتِ،
يَنْـدِبْنَ أحوالَـها،
يَسْـتَجِرْنَ بأضرحة الأوليـاءِ، وهنَّ خرائبُ،
بالرَبِّ لم يَسْـتَجِبْ لـدُعاءٍ،
بإبرهَـةَ البـدويّ، يُقيمُ له فوق أطلالها صَـنَماً،
بملائكـةٍ حملوا زادَهم في الظلامِ وغابـوا،
ولم يبقَ منهـمْ سـوى شَـبَحٍ هائمٍ في الوِهـادْ.
. . . . . . . . . . .
ليس غيرُ النُـواحِ يجيئكَ عبرَ البراري،
فبابلُ موتٌ،
زمانٌ مضى، ورُكامْ،
وقبـورٌ يلوذُ الخُطـاةُ بها، والتُقـاةُ،
فبئسَ الـورودُ،
وبئسَ الغـيابُ،
فهذي رؤاكَ القديمـةُ عادت إليكَ،
وأنتَ تضِـلُّ السـبيلَ إلى روحك المُبتلاةِ بوحشـتها،
وتُطيلُ التَلَفُّتَ،
تُحصي الذي مَرَّ يوماً بيـومٍ،
وعاماً بعـامْ،
والمدينـةُ مثل سـواها، تماثيلُ من مرمرٍ ودُخانْ،
والوجـوهُ زجـاجٌ توارى وراءَ زُجـاجٍ،
تبادلَ تَمْتَمَـةً معه، واختفى في الزحـامْ،
والسـماءُ رصاصـيّةٌ،
قَطْـرُها يتساقطُ أسـودَ فوق المعاطفِ،
والواجهاتِ،
وعُشْـبِ الحقـولِ،
وفوقَ الظـلامْ،
والبـوتُ خَبايا، سـتائرُها لا تُزاحُ،
وما مِنْ وجـوه تُطِـلُّ إذا ما الغريبُ أتاها،
مُهَـدَّلة كَتِفـاهُ،
ومنكسِـراً يتناثرُ من شفَتَـيْهِ الكـلامْ.
. . . . . . . . . . .
غُربَـةٌ هي يا صـاحبي إنْ رحلتَ،
وليسَ سـوى غربـةٍ سـيكونُ المقـام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً