وداعاً حلب
زهير قصيباتي
يقولها باراك أوباما بعدما نعَت واشنطن محاولات إحياء هدنة في المدينة المحاصرة بجهنّم الغارات الروسية، وصواريخ النظام السوري وبراميله… وأنياب الجوع والمرض.
يقول الرئيس الأميركي في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، وداعاً حلب، وداعاً لـ «إزعاجات» المفاوضات العسيرة مع «الشريك» الروسي الذي يطلب المستحيل: فصل مناطق «جبهة فتح الشام» (النصرة سابقاً) عن خطوط المعارضة المعتدلة، يتيح للروس إبادة مسلّحي الجبهة، ويتفرّغ النظام السوري للاستفراد بمقاتلي المعارضة وسحقهم. هكذا، في السيناريو المفضّل لدى الكرملين «تعود الأوضاع إلى طبيعتها في سورية».
وأما الـ400 ألف قتيل، فهم لدى موسكو والنظام السوري مجرد فائض… دماء.
يظن القيصر فلاديمير بوتين أنه ردّ الصاع صاعين إلى البطة الكسيحة، أوباما الذي سيسجّل التاريخ أن أبرز إنجاز له حيال المذبحة السورية، هو تدريب بضع عشرات من المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد، وتركهم بلا غطاء جوي، لتصطادهم طائرات السوخوي والبراميل المتفجّرة. وسيسجّل التاريخ أن إدارة أوباما منعت تزويد المعارضة السورية صواريخ مضادة للطائرات، كي تبقى للنظام حرية التحرُّك والتفوُّق جواً، وتبقى للروس حرية اختيار المناطق التي يختبرون فيها أسلحتهم، وبعضها يكرّس جرائم حرب يومياً، فيما الغرب يُصعِّد إلى أقصى «الممكن» مع الكرملين، فيندّد بالوحشية.
يظن بوتين أنه ردّ الصّاعَ صاعين إلى الإدارة الأميركية، واختار توقيت نعي التفاهم السياسي لإحياء الهدنة السورية، من أجل تجميد اتفاق أميركي- روسي لشطب فائض البلوتونيوم المستخدم في إنتاج أسلحة نووية، لدى روسيا والولايات المتحدة. استعار القيصر لغة واشنطن التي باتت «تهديداً استراتيجياً للاستقرار»، فحانت فرصة الانتقام من التشهير الأميركي بالأهداف الروسية في سورية، ومن العقوبات الأميركية- الغربية (الملف الأوكراني).
والوجه الآخر لقرار بوتين الذي يودّع به «شريكاً» مشاكساً في الحرب السورية، أنه يبرّئه من شبهات كثيرة بالتواطؤ مع موسكو، عبر إطلاق يدها مفوّضاً سامياً لإدارة الحرب. لكنه حتماً لن يبرّئه من دماء 400 ألف سوري، إذ سهّل عجز أوباما لأطراف معروفين الاستماتة لإنقاذ النظام في دمشق وتمديد عمر المذبحة، ومكّن الروس من إدارة جولات إبادة، تحت غطاء «قطع رأس الإرهاب».
البطة الكسيحة التي فضّلت «القوة الناعمة» نهجاً منذ سنوات، بدت أولاً متعفّفة عن متاعب الشرق الأوسط ومصائبه، لكنها، حتى النهاية، ما زالت أسداً مع أطراف عربية حاولت مرات إقناع الأميركيين بأن الوسيلة الوحيدة لإرغام النظام السوري على التفاوض مع معارضيه، هي تسليحهم لتعطيل قدرته على ارتكاب المجازر.
لا واشنطن ولا موسكو أصغتا للحرب، بل إن وقائع 12 شهراً من التدخُّل العسكري الروسي في سورية، سقط خلالها عشرة آلاف ضحية، تثبت تقاطع المصالح الأميركية- الروسية- الإسرائيلية عند منع إطاحة النظام.
وتُظهر وقائع سنة تلت توقيع القوى الكبرى الاتفاق النووي مع إيران، استعداد الغرب للاعتراف بدور لطهران في معالجة أزمات المنطقة العربية وحروبها، أو إدارتها. أي أن شروط المقايضة اكتملت، بين مصالح تجارية اقتصادية غربية، وأدوار إقليمية إيرانية، ستمنح الشرعية لأطماع «الحرس الثوري» على حساب أهل المنطقة المنكوبة بصراعاتها وطموحات «الكبار».
وإن بدا أنّ أسواق التجارة مع إيران «المنفتحة» على العالم، وخطط الإدارات الدولية لبقاع عربية، بذريعة إخماد براكينها، هي ثمن ناجز للصمت على المذبحة السورية، فمأزق انعدام الوزن في معالجة الأزمات الدولية، يثبت معضلتين: انعدام وزن الأمم المتحدة الراعية لحقوق الشعوب وسيادات الدول، وخطف «الفيتو» الروسي لمجلس الأمن.
وأما أنانية الغرب المتعولم، إن كانت تتعملق، فبغياب مفاهيم العدالة الإنسانية، الذي مكّن الجلاد من قتل الضحية مرات، بسيف حرب على الإرهاب، باتت أبدية، مثلما أصبحت دماء العرب تهرق بلا حساب، وأرضهم مباحة للشرق والغرب.
أصل المحنة في عالم القتل الرخيص ومخيمات التشرُّد والسكوت على ذبح الأطفال كل يوم، فراغ وحشي في غياب زعامات دولية عادلة. وأصل محنتنا أن الفكر العربي ما زال مدمناً على دور الرهينة للتاريخ ومذابحه… وعلى دور الضحية.
وداعاً حلب، يقول أوباما، ويودّعه بوتين بحفلة راقصة في قاعدة حميميم الروسية، على الأرض السورية، ترفيهاً للجنود الروس. أمام هؤلاء فصول أخرى من الحرب المجنونة.
نقلا عن “الحياة اللندنية”