2014 أو عام الضعف العراقي
حميد الكفائي*
لا شك في أن عام 2014 سيدخل التاريخ بوصفه عام الضعف والتمزق العراقيين على صعد كثيرة، فقد بدأ بتشتت وغموض سياسيين وخروج الفلوجة عن سيطرة الدولة، وانتصف بسقوط ثاني أكبر محافظة عراقية ألا وهي محافظة نينوى في العاشر من حزيران (يونيو)، ثم تهجير الملايين من سكانها، خصوصاً غير المسلمين، المسيحيين والأيزيديين، وقتل الكثير منهم وسبي الأطفال والنساء بل بيعهن على أيدي «تنظيم الدولة» (داعش)، ثم انتهى بتدهور الأمن في العديد من مناطق العراق وشيوع أعمال الخطف والقتل حتى في بغداد، إضافة إلى المحافظات الأخرى.
وفي المجال الاقتصادي انخفضت أسعار النفط إلى النصف لتزيد من معاناة العراقيين الذين انهكتهم الخلافات السياسية والتناحر الطائفي والقومي والمناطقي والحزبي والتدهور الأمني. أما التناحر والاحتراب على المناصب والمكاسب فاشتد حتى داخل الكتلة الواحدة بل في الأحزاب والمكونات الصغيرة للكتل السياسية، بعد أن كان في السابق يتخذ طابعاً طائفياً أو قومياً أو مناطقياً.
كان الضعف واضحاً لكل ذي عين في مطلع العام وعلى رغم أنه كان عام انتخابات ويفترض أن يتوحد الخطاب الوطني ليشمل القضايا الرئيسية التي تهم الشعب العراقي، فقد كانت المشكلة الرئيسية التي شغلت الأحزاب والكتل السياسية قبل وبعد الانتخابات هي مسألة الولاية الثالثة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي بدا متمسكاً بالسلطة إلى آخر لحظة ما أصاب النظام السياسي كله بالغموض والتشتت. كان هم الجميع، حتى داخل كتلة «دولة القانون» التي يقودها نوري المالكي، هو كيفية إقناع المالكي بعدم الترشح لولاية ثالثة كي يفسح المجال لوضع سياسي جديد يزيل التشنجات والتقاطعات الكثيرة في الساحة السياسية العراقية التي ولدتها سياساته الخلافية.
لكن الحل لم يأتِ من الطبقة السياسية العراقية بكل تنوعاتها، بل من الزعيم الديني الشيعي آية الله علي السيستاني الذي أوصى بتسمية رئيس وزراء جديد بعد أن تسلم رسالة من قيادة حزب الدعوة الذي يشغل فيه المالكي موقع الأمين العام. وكان الحل مبتكراً فعلاً، إذ جاء على شكل جواب عن رسالة بعثت بها قيادة الحزب إلى السيد السيستاني تطلب فيها رأيه في الوضع السياسي وإن كان من الأفضل أن تتغير قيادة الحكومة. فجاء الرد حاسماً ولا يحتمل أي تفسير أو تأويل غير ما ورد في مضمونه وهو ضرورة استبدال السيد المالكي.
وعلى رغم أن السيد السيستاني لم يتدخل في الشأن السياسي العراقي في شكل مباشر، ربما باستثناء فترة التأسيس في الانتخابات الأولى عام 2005، بل رفض حتى استقبال أي سياسي عراقي منذ تشكيل حكومة المالكي الثانية عام 2010، إلا أنه شعر بالحاجة إلى إبداء رأيه في هذه المسألة المصيرية خصوصاً أن السياسيين العراقيين، ليس في حزب الدعوة فحسب، بل في الكتل السياسية الأخرى أيضاً، قد طلبوا رأيه بإلحاح، كما أوضح مقال نُشر على موقع المرجع الديني الشيعي. ما كان لأحد أن يجد حلاً للانسداد السياسي الذي حصل بعد الانتخابات سوى السيد السيستاني الذي يحظى باحترام واسع من كل القوى السياسية والدينية والاجتماعية. فالمساعي الأميركية لتغيير المالكي لم تفلح في إزالته منذ المحاولة الأولى التي أجريت بعد انتخابات 2010 التي فازت فيها القائمة العراقية بزعامة نائب رئيس الجمهورية الحالي أياد علاوي عندما حاول الأميركيون أن يجدوا حلاً للمشكلة العراقية آنذاك عبر تنحية المالكي عن رئاسة الوزراء، حسبما قال مقربون من المالكي آنذاك.
كما أن الساسة الإيرانيين لم يتمكنوا من التأثير عليه بعد انتخابات 2014، إذ بقي متمسكاً بحقه في تشكيل الحكومة للمرة الثالثة، ولم يستطع أعضاء حزبه وكتلته إقناعه بالتخلي عن القيادة، ولم تفلح مطالب القوى السياسية، الكردية والسنية والشيعية هي الأخرى، فجاء الحل من الزعيم الديني الشيعي.
الانهيار الأمني الذي حصل بسقوط الموصل في العاشر من حزيران وانكسار الجيش العراقي وانحلال الأجهزة الأمنية في المحافظة قد أصاب الجميع بالإحباط، حتى أن المعنويات انهارت في أهم المؤسسات العراقية وهي الأمنية والاقتصادية، فاتجهت الأنظار مرة أخرى إلى الزعيم الشيعي آية الله السيستاني، الذي افتى بوجوب محاربة الجماعات الإرهابية التي سيطرت على الموصل وغيرها من المدن العراقية، ما دفع الكثيرين من الجنود والشرطة والمتطوعين إلى الصمود والمواجهة بعد أن كان الانكسار واضحاً على الجميع. وقد ساعد الموقف الدولي الموحد تقريباً العراق في مواجهة الجماعات الإرهابية كثيراً لجهة تماسك الجبهة الداخلية ورفع معنويات العراقيين الذين اقتنعوا من جديد بأن الانتصار على الإرهاب ممكن مع اصطفاف العالم إلى جانبهم.
وبعد أن وصلت حالة الضعف العراقي هذه إلى أدنى المستويات بدأت بوادر الحلول تظهر منذ بدء مصادقات البرلمان على حكومة حيدر العبادي في الثامن من أيلول (سبتمبر) التي انتهت بعد اربعين يوماً بالمصادقة على وزيري الداخلية والدفاع في الثامن عشر من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وعلى رغم أن حكومة العبادي لا تمتلك حلولاً سحرية لمشاكل العراق الكثيرة والمعقدة، خصوصاً السياسية منها، إلا أن المشجع هو تعاون الكتل السياسية حتى الآن للنهوض بالوضع العراقي، والذي تجلى بالاتفاق السياسي-النفطي بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم الذي سيحل جزءاً من المشكلة الاقتصادية على الأقل بعد سيطرة «تنظيم الدولة» على طرق تصدير النفط العراقي المارة عبر الموصل.
كما إن تعاون الدول الاخرى مع العراق لمواجهة الجماعات الإرهابية قد أعاد الثقة إلى المؤسسات العراقية جميعاً بأن هناك أملاً باستعادة الدولة سيطرتها على المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة حالياً.
المؤسسات العراقية، السياسية والأمنية والاقتصادية والقضائية، فشلت خلال عام 2014 في توفير الحلول الناجعة للمشاكل العراقية الكثيرة، فجاءت الحلول من المؤسسة الدينية والمجتمع الدولي، وقد آن الأوان ان تنضج التجربة العراقية ويشعر القادة بأن عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم ويجدوا الحلول لمشاكلهم مستقبلاً ولا يتوقعوا النجدة من آخرين. العراق لم يخرج من دائرة الخطر بعد وستبقى الحاجة للتماسك الوطني والتعاون الدولي والإقليمي قائمة وملحة لبضع سنوات مقبلة.