ترامب المرعب لا يخيفنا
نصري الصايغ
ماذا نصنع بالإرث الأميركي الذي يرشح دماً؟
الأمس الأميركي المديد في بلادنا، دامس ومهووس بارتكاب البشاعات المتصلة. له في فلسطين ارتكابات الاعتداء والاقتلاع والانحياز المدعَّم بالأسلحة. له في العراق قتل شعب بالحصار، وتمزيق دولة بالاحتلال: لون دجلة قان. لون الفرات ليل… للأمس الأميركي استباحة حقوق وتأليف حروب وإملاء إرادة ودعم الظلم والاستبداد. أميركا مع كل الحروب الإسرائيلية، وفيها. حرب حزيران لم تكن الفاتحة. الجسر الجوي في حرب تشرين أنقذ «إسرائيل» من خسارة. اجتياح لبنان حذف فلسطين منه. عدوان تموز والحروب على غزة والحصارات المديدة، جرت بتوقيع أميركي… الأمس الأميركي احتضن الإسلام الجهادي التكفيري لمحاربة الإلحاد الشيوعي في أفغانستان. الإرهاب الراهن هو الابن الشرعي لتلك الولادة الآثمة، لحركات دينية، فتكت في ما بعد، بالجزائر، ومن بعدها، بكل ما بعد «الربيع العربي».
لقد عرفنا الأميركي البشع والجشع مراراً. ترامب المخيف، لا يخيفنا.
هذا القادم بلغة الحذف والحسم والإلغاء والمنع، أميركي أصيل. جاءت به الملايين المسحورة بلهجته القاطعة ومواقفه الملائمة لثقافة العنف والنقاء العنصري. هذا الأشقر الفاقع، أبيض جداً. يكره الغرباء والمهاجرين. يقاوم الإجهاض، ويريد أميركا بقيم بالية ومتخلفة… من حق الأميركيين الخاسرين أن يخشوا ترامب، وأن يحتلوا أرصفة المدن اعتراضاً ورفضا، وأن يتشبثوا بمكتسبات إنسانية حضارية، عابرة للأوطان والحدود والدول. من حقهم أن يتشبثوا بـ «أوباما كير»، وأن يدافعوا عن الهامشيين واللاجئين والضعفاء وحقوق المرأة.
نحن، هذه الأمور لا تخصنا. لدينا ما يخيفنا من البشاعات العنصرية والطبقية والدينية ما يجعلنا في مصافّ الشعوب المخيفة.
لذا، فإن ترامب المخيف، لا يخيفنا أبداً.
أن تقلق أوروبا وتخاف، شأن طبيعي. اليمين المتطرف على الأبواب. القوميات العنصرية الانعزالية تقرع أجراسها فرحاً بترامب. بوتين من الشرق وترامب من الغرب، وأوروبا بينهما. شيء يشبه ما بين الحربين العالميتين. أوروبا العجوز تنوء بأثقال الاتحاد الأوروبي. الاتحاد تؤيده نخب المال والأعمال ووكلاؤهم في السلطة والأحزاب والإعلام. الأكثرية من الشرائح الشعبية تعادي أوروبا. بريطانيا خرجت، هي الأولى، وقد لا تكون الأخيرة، ماذا يبقى من أوروبا إن فاز اليمين المتطرف؟ ترامب هذا، يخيفها. هو نموذج يحتذى، من أحزاب وجدت في العنصرية ملجأها، وفي المهمشين والبروليتاريا، قاعدتها، وفي القومية سلاحها لمواجهة العولمة الاجتياحية. قبضة اليمين المتطرف تجد في ساعدي ترامب سنداً لها: «اذا كان هذا قد حدث في أميركا، فلا شيء يمنع حصوله في الغرب». فرنسا خائفة، ألمانيا قلقة، أوروبا الوسطى مرعوبة… يحدث كل هذا، وبوتين على الأبواب، وأردوغان يتوعد، والإسلام التكفيري يشعل الحرائق أينما كان.
نحن العرب، ليس لدينا ما نخسره. نحن الخسارة التامة. لذا، نحن الذين نخيف العالم. لدينا عنف بصيغ متعددة ومتجددة ومبتكرة: عنف ديني أصولي متدفق، عنف مذهبي اقتلاعي، عنف عنصري موروث، عنف استبدادي مستشرٍ، عنف قابل للتصدير إلى «بلاد الكفر»، عنف يستقبل متطوعين من «مجانين الله» من أنحاء الدنيا، عنف يستدعي مساهمة دول إقليمية وفيرة المال والنفط، مقيمة في فسطاطي التشيع والتسنن، ودول عظمى ووسطى… عنف ألغى أنظمة، بدَّد حدوداً، أفنى أقليات، اجتاح مدناً، دمر بلاداً، أعدم ثقافات، وجعل من الشعوب قبائل من النازحين والرحَّل على أرصفة العالم، أو، برسم المغامرة القاتلة في رحلة الغرق بين شواطئ المتوسط.
لدينا ما يكفينا وما يفيض عنا. العالم يعانينا. لدينا كل هذا الخوف المخيف، فممن نخاف؟ ترامب يأتي أخيراً. نحن أولاً. لم يرتكب عدوّ قريب أو بعيد، ما ارتكبناه.
لا خوف إضافيا على فلسطين. أميركا تريدها في عهدة «إسرائيل». التفاوض ثنائي، فقط. ممنوع على أوروبا و «الرباعية» والأمم المتحدة وعلى أميركا أيضاً، أن تكون طرفاً حاضراً على طاولة التفاوض. الاعتراض الفلسطيني الكلامي مسموح بحدود الشكوى الهادئة. ما عدا ذلك تحريض على العنف. المقاومة الفلسطينية ممنوعة ومدانة ومتهمة بالإرهاب. هذه مواقف أميركا وهذه هي تأكيدات ترامب لـ «آيباك».
خشية وحيدة، أن يتجرأ ترامب على الاتفاق النووي. ستحتفل إسرائيل وتبتهج السعودية ودول الخليج. ما عدا ذلك، فإن أميركا هي أميركا. مشكلتنا معها، أياً كان رئيسها. الفارق بين الرؤساء، هو في نسبة الإساءة، القائمة بين معدل «سيئ جداً» وبين «في غاية السوء». تذكروا رؤساء أميركا، ضمائرهم وأياديهم ملطَّخة.
ترامب ليس مشكلتنا. نحن المشكلة: جنون يقارب الانتحار. خسائر تراجيدية. الموت بأعلى صوت، لمدن وبلاد وشعوب. النار لا تزال على يقظة، لم نصل بعد إلى سكينة الرماد.
إلى أين هذه البلاد ذاهبة؟ هل هناك بعد العنف والموت، أمكنة صالحة لأوطان بأحلام صغيرة؟
يا ليت!
نقلا عن “السفير”