ماذا تبقّى من «عدم الانحياز»؟
عندما تأسست حركة عدم الانحياز في باندونغ العام 1955 ، وعقدت مؤتمرها الأول في بلغراد العام 1961 بمشاركة 25 دولة، كانت هذه الدول تسعى لتشكيل تجمع دولي جديد يخرج بالعالم من ثنائية القطبية الأمريكية -السوفييتية آنذاك إلى عالم غير منحاز في فترة الحرب الباردة، وقادر على أن يضع مسألة استقلال وسيادة الدول وحريتها فوق الصراعات الأيديولوجية ومصالح الدول الكبرى، وأن ينأى بالعالم عن مخاطر التدخلات الخارجية والنفوذ والسيطرة التي كانت تسعى إليهما الدول الاستعمارية آنذاك، وبعيداً عن الأحلاف العسكرية.
لقد حققت حركة عدم الانحياز خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي إنجازات ليست هينة في تثبيت قواعد الاستقلال والحياد ودعم حركات التحرر في العالم ، ووقفت بصلابة ضد محاولات السيطرة والاستتباع، رغم أنها تلاقت في بعض المراحل مع أحد القطبين العالميين(الاتحاد السوفييتي) في الحصول على السلاح والمساعدات لتدعيم أمنها وتحقيق التنمية ، لأن الطرف الآخر (الولايات المتحدة) ناصب هذه الحركة العداء منذ نشأتها ، لأنه رأى فيها محاولة تمنع نفوذها وتمددها في مجرى الصراع الذي كان قائماً آنذاك مع الاتحاد السوفييتي.
لقد لعبت القيادات الكارزمية للحركة من أمثال الرؤساء الراحلين جمال عبد الناصر وتيتو وسوكارنو وشو آن لاي ونكروما وسيكوتوري ، دوراً محورياً بارزاً في صعود الحركة ونجاحها وقدرتها على التأثير في مسار التطورات والأحداث الدولية، وأن تثبت ركائز عمل الحركة وتقود تياراً عالمياً بعيداً عن المحاور والأحلاف ، وتساهم مساهمة فعالة في تحقيق استقلال العديد من الدول في آسيا وإفريقيا، والوقوف بثبات مع حركات التحرير ودعم حقها في ممارسة الكفاح ضد الاحتلال، وكان لقضية فلسطين نصيب وافر في هذا الدعم من خلال عشرات القرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة في تأييد الحق الفلسطيني ، وإدانة الممارسات العدوانية العنصرية «الإسرائيلية».
في القمة السابعة عشرة للحركة التي عقدت مؤخراً في فنزويلا، وما صدر عنها من مقررات، وما تخللها من نقاشات، وقياساً بحضور القادة في هذه القمة وقادة الأمس يتبدى الفارق واضحاً وشاسعاً. ورغم أن ظروف اليوم ليست ظروف الأمس، والتطورات التي طرأت على الساحة الدولية خلال العقود الأربعة المنصرمة بدّلت الكثير من الوجوه والخرائط والأنظمة، فإن الحركة ما زالت قادرة على عقد اجتماعاتها الدورية، وأن تصدر بياناتها وتحدد مواقفها ولو بالحد الأدنى، رغم أن الكثير من هذه الدول لم تعد «غير منحازة» ، بل هي شريكة في أحلاف وتحالفات دولية تعمل أحياناً ضد دول أخرى أعضاء في الحركة.
كل ذلك صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن أثر القيادات التاريخية للحركة لم يعد ظاهراً، كما أن وهج الحركة تضاءل وبهت.
لذلك فالحركة تحتاج إلى دم جديد، وإلى روح جديدة، والى غربلة في صفوفها وتنقيتها من الشوائب ، كي تعاود القيام بدورها في عالم تعصف به الأنواء والصراعات والحروب والإرهاب.
نقلا عن “الخليج”