اراء و أفكـار

ترقّبوا جمهورية سوريا «الفدرالية»!

بعد تصريحات عديدة تركيّة تؤكّد أن روسيا تقوم بإنشاء دولة علوية للأسد، وتصريح لوزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، يحذر فيه من انهيار الدولة السورية، جاء تصريح نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، ليضع النقاط على الحروف. فعلى عكس التصريحات التركية والأمريكية، التي تحذّر من انهيار الدولة السورية، ومن خطط موسكو لإنشاء دولة علوية تدور في فلكها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، فإن التصريح الروسي يحبّذ ويروّج لفكرة سوريا «فدرالية»، وهو واضح في صراحة تأييده لهذا السيناريو.
لكن ما الذي يقصده الروس حقاً؟ وهل يتعلّق الأمر بخطّة روسية منفردة، أم بتوافقات بين القوّتين العظميين، تستخدم المباضع العسكرية والسياسية المتوفرة لديهما، لصياغة جراحية تعيد فتق وقطب الجسد السوري المنتهك؟ أم أن الأمر يتعلّق بقبول أمريكيّ ـ روسيّ بتسويات الأمر الواقع فعلاً والذي يفرض نفسه، والذي يعتبر أن سوريا القديمة قد انتهت، وأن الشعب السوري تحوّل إلى كيانات متنازعة، لا يجمع بينها غير مناخ التكاره الأهليّ الهائل الذي غذّته المجازر وحملات التطهير الطائفي والقوميّ، والهجمات الكيميائية وقصف الصواريخ والبراميل المتفجرة، والتهجير المبرمج؟
تصريح ريابكوف يمتدح النموذج «الاتحاديّ» كونه «سيخدم مهمة الحفاظ على سوريا موحدة وعلمانية ومستقلة وذات سيادة»، على حدّ قوله، ويجيء هذا القول معطوفاً على تصريح سابق للرئيس السوريّ، بشار الأسد، في أيلول/سبتمبر الماضي «لا يستبعد النظام الاتحادي». ويتوافق التصريحان في الجوهر. فالروسي يشترط ألا يكون هذا النظام «من إملاء شخص على بعد ألف كيلومتر من سوريا»!، بينما يقترح الأسد أن يكون التغيير «نتيجة لحوار بين السوريين»!
التصريح الروسيّ يظهر، بداية، انتقالاً من مرحلة التموضع العسكريّ البرّي والجوّيّ، التي غيّرت موازين القوى في سوريا لصالح النظام وحلفائه، إلى مرحلة إعادة فكّ وتركيب هذا النظام بشكل يخدّم على المصالح الروسيّة، من جهة، ويعيد تطبيع علاقات هذا النظام الشرعية والقانونية مع العالم.
مصطلح «جمهورية سوريا الاتحادية» هو أكثر من قلب لحروف «جمهورية روسيا الاتحادية»، ولا تفوت سيدا الكرملين و»قصر المهاجرين» طبيعة التشابهات الكثيرة بينهما، فالرئيسان، بوتين والأسد، تولّيا السلطة في العام نفسه، ولديهما تاريخ طويل من المجازر ضد حواضن «إسلاميّة سنّية»، في الشيشان والقوقاز، كما في سوريا ولبنان. وكلا الرئيسين يخضعان لعقوبات غربيّة كبيرة على نظاميهما، وكلا البلدين يلتقيان في شراكتهما العميقة مع إيران ومشروعها للمنطقة العربية.
ما يختفي إذن، خلف الجمل الباطنيّة عن «سوريا اتحادية» ودولة «علمانية ومستقلّة وذات سيادة» هو رغبة خالصة في استكمال هضم روسيا لسوريا وجعلها فلكاً تابعاً لها، وفي ذهن موسكو بالطبع، نموذج إسرائيل ودورانه في فلك الولايات الأمريكية المتحدة. تحت حكم الأسد تحوّل مصطلح «الجمهورية العربية السورية» إلى «ماركة» أو «براند»Brand لتوصيف الوحشية المطلقة لنظام في تعامله مع مواطنيه، وكذلك للإرهاب بكلّ أشكاله: إرهاب الدول، وإرهاب التطرّف الديني والطائفي والقومي، وهذا، يستدعي، في عرف «البزنس» السياسي العالمي، اختراع «براند» جديد: جمهورية سوريا الاتحادية.
يعود الاسم بالتاريخ لثلاثينات القرن الماضي حين ارتأت فرنسا آنذاك أن تقسم المشرق العربي إلى دول دمشق وحلب و«جبل العلويين» و«لبنان الكبير» و«جبل الدروز»، ولكل من هذه الدول علم وعاصمة وحكومة وبرلمان وعيد وطني وطوابع وبريد. واضطر الفرنسيون، بعد ثورة شعبية استمرّت سنوات، لإعادة توحيد سوريا، كما اضطروا لإجراء انتخابات فازت فيها المعارضة وصولاً إلى استقلال سوريا ورفعها العلم الذي يرفعه الثوار السوريون اليوم.
تحاول روسيا أن تقوم، من جديد، بما فشل فيه الفرنسيون، مع التركيز على «الدولة العلوية» العتيدة. ولا يبدو أن الأمريكيين بعيدين كثيراً عن هذا المشروع، ولكن من باب التعويل على الطرف الكرديّ ومغازلة أحلام الأكراد بدولة مستقلّة.
والمشكلة في المشروعين هما الطابع الانتهازيّ والقسريّ فيهما، وفي تعارضهما مع أحلام السوريين بدولة مدنيّة «مستقلة وذات سيادة» فعلاً لا يتحكم فيها طرف يبعد عنها 5421 كيلومتر (مثل روسيا)، أو 10745 كم (مثل أمريكا).

نقلا عن “القدس العربي”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً