ثقافة وفن

باسم فرات .. وامرأة الى المنافي البعيدة

باسم فرات

يطل من جديد باحزانه وتوتره الشعري الملفت ومن منفى غير تلك المنافي السالفة التي عرفها.. لكنه هذه المرة يحمل معه امرأة بقيت هناك في ذاكرته كالبلد الذي ضمهما اليه أيام الطفولة والصبا لكنه ابتعد عنه مرغما الى أقاصي الارض.

يطل عليك الشاعر العراقي باسم فرات هذه المرة من أكثر من مكان واحد: رسالته التي احتوت مجموعته الشعرية التي صدرت في القاهرة أرسلت من عمان وهو يقول انه الان انتقل من الاكوادور للعيش في الخرطوم بعد اقامات في أماكن منها نيوزيلندا واليابان وبلدان أخرى.

المجموعة الجديدة التي حملت عنوانا هو “اشهق باسلافي وابتسم” تعيدك بالذاكرة الى تلك المجموعة السابقة التي كانت قد وصلتك منه من مدينة هيروشيما اليابانية ذات الذكرى التاريخية السوداء.

جاءت المجموعة في 111 صفحة متوسطة القطع وبلوحة غلاف للفنان صدام الجميلي وقد صدرت عن دار الحضارة للنشر في القاهرة. قصائد المجموعة كلها هي من نمط قصيدة النثر الحديثة. ولباسم فرات أعمال بالعربية والانجليزية صدر بعضها في عمان وفي اسبانيا ونيوزيلندا.

الشاعر في هذه المجموعة ممتليء بالفقد والألم والحنين الى أيام مضت ومطارح أفلت يحملها معه وفي ثناياها صورة المرأة التي أحب والتي ترافقه في كل أزمنته الى جميع الأماكن وجميع النساء والتي تشكل أحيانا نوعا من العلاج النفسي له في غربته.

يكتب باسم فرات بذلك التوتر والايقاع الحزينين وكأنه في مأتم يمتد من أعماق الماضي إلى آخر هنيهات الحاضر ويبدو أنه سيبقى طالما كتب البقاء للشاعر.

إنه بكّاء تاريخي كأنه أخذ وقفة الجاهليين على طلل لكن الطلل عنده تحول الى وطن غارت في ارجائه قصة حب لم يسعه نسيانها. وهو يكتب شعرا رمزيا حافلا بالصور وبموسيقى كيفما قلبت السمع والنظر فيها وجدتها أنينا في أنين.

قبل القصيدة الأولى يفتتح باسم فرات المجموعة بسطرين يهديهما الى الحبيبة فيقول “انت سفينة النجاة / بانوثتك تحرسين ايامي.”

القصيدة الاولى عنوانها “انتباهة طفل” تشكل عودة من الحاضر بعد رحلة العمر الى الماضي والبكاء على الراحلين الكبار الاولياء الذي طبع نفس الشاعر من خلال ذكرياته.

يقول في القصيدة التي تجمع الرمزي الى الواقعي “المزار المبتل بانين الأرامل / حيث طفولتي تسابق اللهو / والجنائز تمر /نشيج يخترق براءتي / اراه يطوف في الايوان والردهات / يعانق التراب / بكاء مكتوم لكنه شامخ أحييه بانتباهة طفل / تضرعات على جدرانه تزيدني خشوعا / رأيت شهقاتها / تتململ في بئر الكوابيس / وفي نظراتها أمهات غسلن العمر بالنواح”.

ويتحدث عن المزار الذي يرقد اسلافه في باحاته “وبطولاتهم حكايا تجيد تزيينها النساء بالدموع.”

في قصيدة “موجوع بحبك” رمزية وصور متحركة تسيل حزنا ووحشة ومرارة وخيبة بل تفيض بكل ذلك. يقول “أتكيء على حائط قديم ترك ضحايا زنازين ذكرياتهم عليه / فتصطاد العناكب صرختي / أجدني في شباك مليئة بقتلى / برّوا بقسمهم لحبيبات / يجلسن على ضفة النهر يمضغن غرورهن / وهن يمزقن قصائد كتبها مجانين مثلي.”

وفي جو من الأسى المهادن الهاديء الذي تخلى عن اللهب والفوران وفي قصيدة بعنوان “طين الأيام” يقول الشاعر “سأجمع الكلمات القديمة / تلك التي عتقها الفقد / أجللها بالسواد / وأضع عليها آسا وزهورا / أعطرها بماء الورد / ثم أغلفها بالنهر / لعل موجة نزقة تحملها / حيث محبون تواروا تحت شجرة السدر / يطفئون نارا وقودها طين أيامي.”

وفي قصيدة “حمى الفقد” الأسى نفسه والأنين ذاته في صور ورمزية لا تبتعد. يقول “صوتك هو ذكرياتي الوحيدة / أتدفأ عليها في غربتي ../ حين أغلق جوالي أرى ضحكتك قد سبقتني الى السرير.”

وفي “حلم مغتصب” يقول باسم فرات “عشرين سنة لم أبل ريقي بنبع شفتيك…/ كل منفى يطردني الى آخر / وكنت أستقوي على كل هذا بمنديل مسحت دمعك فيه / يوم طاردنا العسس غبت في مدلهمات الحياة / آويت غربتي في أسمالي / وفي غمرة تشردي بقي صوتك / دليلي على أنك حلم اغتصبه مني الرحيل.”

وفي قصيدة “صوتك” يخاطبها قائلا “في المنفى / حملت صوتك / هو تعويذتي / كلما استفز عراقيتي رجال الحدود / واستفردت عزلتي بي / ايقونة / تطرد عني تيه القبائل / في بحثها عن دمي.”

ويختم المجموعة بقصيدة مغرقة في الرومانسية عنوانها “يتنفسك حتى بهذيانه” متحدثا عن مرور الزمن والذكريات العتيقة التي تعيد الى النفس جوا من أيام الشباب وعن الموت الزائر النهائي فيقول “وانت ترين حفيدتك هذا الكتاب / تتباهين باهدائي المميز / وان قصائده منقوعة بعطرك / تحمر وجنتاك تبخترا …/ ويتقدم الصبا فيك / مبعدا شيخوخة خجولة / تسللت فزادتك القا…

“ومع تنهيدتك / رجال البلدية يعثرون على جثة في ركن مهمل من المدينة / على شاهدة القبر سيكتبون / هنا يرقد شاعر تفرد بشعره وحياته ..والى آخره / تغلقين الكتاب فيهيلون التراب عليه.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً