اراء و أفكـار

«سبايكرات» عراقية ممتدة

مشرق عباس*

ليست اول مجزرة، ولن تكون آخرها، لكن واقعة «قاعدة سبايكر» التي اعدم خلالها المئات من الجنود الذين حاولوا الهرب من مدينة تكريت في حزيران (يونيو) الماضي، وصورت عملية اعدامهم، كما القي العديد منهم في نهر دجلة، تكشف في تداعياتها عن عمق استعدادنا لنحر بعضنا في اول مناسبة ممكنة.

الصورة نفسها تكررت في سورية بعد «سبايكر» بفترة على يد مقاتلي «داعش»، وهي تتكرر بصورة يومية قبل احتلال مقاتلي البغدادي الموصل، وبعد هذا التاريخ، ومع هذا فـ «داعش» كتنظيم لا يمثل الا نفسه، يجد من يحاول تبرير جرائمه.
اللافت ان تفاعلات هذه القضية لم تخرج الى السطح وتتحول الى تظاهرات تقتحم مبنى البرلمان العراقي، الا بعد ان خرجت او «أُخرجت» من عباءة «داعش» وألقيت على سنّة العراق بالكامل احياناً، وعلى عشائر تكريت احياناً أخرى.
وهذا الانتقال الذي حكم ردود الفعل ووصل الى نخب سياسية وثقافية، تكرس بعد ان أعلن السياسي المثير للجدل مشعان الجبوري، عبر قناته التلفزيونية، اسماء متورطين بهذه العملية، وبينهم أحد أبناء اخ الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
والى هنا يمكن القول إن ظروف وملابسات ما بعد احتلال الموصل، وركوب «داعش» موجة الغضب السنّي ضد حكومة المالكي، كانت أفرزت وضعاً معقداً وضبابياً حول الأحداث وتفسيرها وظروفها، ومواقف كل الاطراف منها، ناهيك عن غموض يلف التقهقر المريب للقوات العراقية من الموصل ثم تكريت واجزاء من كركوك وديالى والانبار، وظهور رايات «داعش» في نصف مساحة العراق خلال ساعات فقط.
لكن ما حصل بعد اقتحام مقاتلين ينتمون الى ميليشيات مسجداً سنياً في ديالى وقتل من فيه، وبروز ادانات محلية ودولية على خلفية الحادث، بدا وكأنه مناسبة لمنح مجزرة «سبايكر» زخماً جديداً.
كان منطقياً جداً، ان لا تهمل مجزرة «سبايكر» ويتم إغفالها رسمياً خوفاً من افتضاح المسؤولية التي يتحملها الجانب الرسمي وطريقة ادارة كبار قادة الجيش والاجهزة الامنية، لحركة الجيش، من لحظة انهيار الموصل وحتى اليوم. لكن المجزرة اُهملت، وساق القادة العسكريون معلومات مضللة عنها، ابتداء من عجزهم عن تحديد عدد الضحايا، او حتى عدد من كان داخل القاعدة، وصولاً الى حديث وزير الدفاع بالوكالة سعدون الدليمي وقائد عمليات صلاح الدين علي الفريجي امام البرلمان وأهالي الضحايا أخيراً عن عجزهم عن السيطرة على جنودهم.
واقع الحال ان انشغال قيادات الجيش والداخلية طوال عشر سنوات في الحصول على ما يمكن الحصول عليه من كعكة موازنات النفط، وعقود التسليح والتجهيز، وانشغال كبار رجال السياسة والحكم في العراق طوال هذه الفترة في الهموم النفطية ذاتها، منعهم من الانتباه الى قضية اساسية تخص بنية الدولة، وهي ببساطة «بناء جيش في الاساس»!.
الزج بعشرات الآلاف من الشباب غير المدربين جيداً، وغير المؤهلين نفسياً وبدنياً، للقتال في مواجهات مع تنظيم ارهابي يحمل اوامر قطع الرقاب لمخالفيه وأسراه على حد سواء، وبقيادة ضباط لم يحصلوا على التدريب والتأهيل نفسه، لا تبدو مهمة يتحمل مسؤوليتها وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، بل يتحملها الجندي نفسه، الذي كان عليه ربما تأهيل نفسه بنفسه!
هذا الجانب من المسؤولية التي تتحملها الدولة وقياداتها عن الفواجع العراقية المستمرة، سيتم التغاضي عنه، بل سيتم تحويله الى مادة لاستحظار اسهل اسلحة الدفاع والفساد وخلط الاوراق في العراق: «الطائفية».
في مجزرة مسجد ديالى، كانت الاصوات التي اعتادت على الاستثمار السياسي في الدم العراقي، تتعالى من الجانبين، فينبري سياسيون ومثقفون وناشطون ومواطنون سنة عاديون حتى، للحديث عن المجزرة كمثال لما يتعرض له السنة على يد الشيعة، وستتحول القضية من جريمة ارتكبتها ميليشيات، الى جريمة ساهم فيها وسهل لها الشيعة العراقيون بمجملهم، وينسحب السياسيون السنة من مفاوضات تشكيل الحكومة لساعات، وتتعالى من الطرف الشيعي اصوات اخرى للدفاع عن المرتكبين، والصاق التهمة بـ «داعش».
بعض الأطراف السنية ما زالت تشكك بمجزرة «سبايكر»، وبعض الناشطين يبثون قصصاً مختلفة، يصل بعضها الى القول ان ضباطاً تابعين للحكومة هم من قتلوا هؤلاء الجنود، وبطبيعة الحال فالتسجيلات المصورة للمجزرة التي حملت توقيع دولة البغدادي، «مفبركة» وأعداد الجنود المنحورين بالفعل لا تتجاوز الـ70 جندياً.
بعض الاطراف الشيعية ما زالت تشكك في المقابل بمجزرة «المسجد» فتتداول ارقاماً اقل بكثير للضحايا، وتتحدث احياناً عن خلاف عشائري قديم، ويرد ايضاً ان عناصر «داعش» تحصنوا داخل مسجد مصعب بن عمير، ما برر فتح النار عليهم.
المشكلة ان الجانبين يصران مراراً على الربط بين المرتكبين والطائفة ربطاً مصيرياً لافكاك منه… سواء عبر محاولة تعميم التهم لتشمل كل الطائفة الاخرى، او عند الدفاع عن المرتكبين او تبرير افعالهم او التهوين من جرائمهم.
في مثال آخر ما زال العديد من المتشددين الكرد، يحمّلون العرب برمتهم مسؤولية مجازر حلبجة والانفال، وتضاعف هذا الشعور بعد احداث سنجار. لكن هذه الظاهرة لم يتم تعميمها وتبنيها رسمياً وسياسياً او ثقافياً في اقليم كردستان على الاقل، بل ان قيادات كردية حاصرت بعض الحركات العنصرية، وتم الحديث بصراحة لا عبر توريات لفظية عن عقوبات مشددة لمن ينتمي اليها، وهذا الامر لم يحصل في باقي انحاء العراق، حيث ينال من يحمل شعار اتهام الطائفة الاخرى، وسام «بطل المذهب» والمدافع عنه.
من باب المصادفة ان الدستور العراقي، الذي أقر في 2005 يوجب على البرلمان في مادته السابعة، تشريع قوانين، تحظر «كل كيانٍ او نهجٍ يتبنى العنصرية او الارهاب او التكفير أو التطهير الطائفي، او يحرض أو يمهد أو يمجد او يروج أو يبرر له». لكن تطبيق مثل هذا الحظر سيوقع الوسط السياسي العراقي الذي بنى مجده على التحريض في ازمة كبرى، وسيضعه في صدارة قائمة المتهمين.
في الخلاصة، «سبايكر» ليست جريمة مجتزأة من السياق العراقي، وهي امتداد طبيعي لكل «السبايكرات» التي تحفل بها ايامنا، وهي فرص دائمة، لاعادة تعريف الضحايا والمجرمين على اساس هويتهم الطائفية والقومية، واعادة صوغ وصف الجريمة بعيداً حتى من مرتكبيها.
«سبايكراتنا» هي مناسباتنا المتجددة لاعادة اتهام بعضنا بكل التباسات التاريخ، وتذكيرنا مراراً بنقاء عرقنا، وسمو مذهبنا المميز والبريء والمعتدل والمفترى عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً