ثقافة وفن

حسب الشيخ جعفر ابن ‘العمارة’ الذي غير تقنية الكتابة

العمارة

الشاعر العراقي لم يكن بحكم شخصيته مولعا بالقرّاء، لم تكن لديه رغبة في الشهرة التي كان يتجاوزها بتعففه وطريقة نظره السرية إلى الشعر.

يوما ما، في المستقبل سيُنظر إليه باعتباره واحدا من أهم ألغاز القصيدة العربية على مر عصورها. فما لا نعرفه عن الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر أكبر بكثير مما نعرفه الرجل الصامت في سيرته اليومية، العاكف على ذاته، قليل الأصدقاء كان قد فضل في وقت مبكر من حياته أن يعيش داخل قصيدته زاهدا بالحياة التي صارت بالنسبة إليه مجموعة من الذكريات التي عاشها كما لو أنه اخترعها.

قارته السابعة فاتحة شعره

في كتابه “رماد الرويش” الذي هو كتاب مذكراته لم يقل حسب شيئا مختلفا، عما كان قد رواه في شعره، وهو شعر فتح الأبواب ولأول مرة بين الحكاية والقصيدة، من خلال تقنية القصيدة المدورة التي كان رائدها وهي تقنية وضعت الشعر في مواجهة مصير شكلي مختلف تماما عما كان سائدا في مرحلة رواد الشعر العربي الحديث.

لقد شهد منتصف سبعينات القرن الماضي صدور كتابه الشعري “الطائر الخشبي” الذي يمكنني أن أجزم أنه لا يزال واحدا من أهم الكتب الشعرية التي صدرت خلال

الأربعين سنة الماضية وقد تكون قصيدته “القارة السابعة” التي تضمنها ذلك الكتاب هي القصيدة العربية الأهم في تلك المرحلة.

كانت القارة السابعة فاتحة شعر جديد، لم تستطع الثقافة العربية حتى هذه اللحظة أن تستوعبه أو تحتويه. لا لشيء إلا لأن كسل النقاد والشعراء العرب قد أدى إلى أن يظل الشيخ جعفر مجهولا كما أراد لنفسه.

شيء جوهري في شخصيته منعه من الإشهار عن نفسه. وهو الشيء نفسه الذي حرم القراء العرب من قراءة نتاجه الشعري الذي يرقى ببنائه إلى مستوى الكاتدرائيات القوطية في أوروبا.

انتقل حسب من العمارة وهو في سن الثامنة عشرة إلى موسكو ليدرس في معهد غوركي للآداب في منحة شيوعية وكان مكلفا بنقل البريد الحزبي من العمارة إلى بغداد ولما يزل في سن السادسة عشرة من عمره. كان يخفي كتبه الثورية الممنوعة بين طيات نخلة في دار العائلة

من العمارة إلى موسكو

كان حسب الذي ولد عام 1942 في ناحية هور السلام بمدينة العمارة، جنوب العراق قد انتقل وهو في سن الثامنة عشرة إلى موسكو ليدرس في معهد غوركي للآداب. وما كان ذلك ليحدث لو لم يكن حسب شيوعيا. كان وجوده هناك عبارة عن منحة شيوعية. وكما يقول نصيف الناصري الذي كان واحدا من جلاسه القليلين فإن حسب كان مكلفا بنقل البريد الحزبي من العمارة إلى بغداد ولمّا يزل في سن السادسة عشرة من عمره. كان يخفي كتبه الثورية الممنوعة بين طيات نخلة في دار العائلة. هل كانت تلك الذكرى تقف وراء تسميته لأول كتاب شعري يصدره بـ “نخلة الله” والذي صدر عن دار العودة ببيروت. نخلة الله هو كتابه الشعري الوحيد الذي صدر خارج العراق وكان يومها متأثرا بشاعر العراق الرائد بدر شاكر السياب.

شيء من العبقرية يكمن وراء منحه جائزة سلطان عويس في دورتها الثامنة (2002ــ2003). يحسب لمؤسسة عويس أنها أعادت اكتشاف الشيخ جعفر. فالرجل لم يكن بحكم شخصيته مولعا بالقرّاء، لم تكن لديه رغبة في الشهرة التي كان يتجاوزها بتعففه وزهده وطريقة نظره السرية إلى الشعر. كانت فتوحاته في الشعر قد نشرت داخل العراق في كتب أنيقة لم تصل إلى القرّاء العرب. ثلاثة من كتبه كان بإمكانها أن تزلزل واقع الشعر العربي لو أنها كانت قد قرأت عربيا. “الطائر الخشبي” و”زيارة السيدة السومرية” و”عبر الحائط في المرآة”. كان حسب في تلك الكتب رائدا لنمط لم يعرفه العرب من قبل إلا بطريقة مجتزأة وحيية.

ثلاثة من كتبه كان بإمكانها أن تزلزل واقع الشعر العربي لو أنها كانت قد قرأت عربيا “الطائر الخشبي” و”زيارة السيدة السومرية” و”عبر الحائط في المرآة” كان حسب في تلك الكتب رائدا لنمط لم يعرفه العرب من قبل إلا بطريقة مجتزأة وحيية

ابن لحظته في تداعيه الحر

كتب حسب شعرا لم تعرفه العرب من قبل إلا في ما ندر وكانت ذكرياته في روسيا هي النبع الملهم لكل ما كتب. حكايته الشخصية بدأت وانتهت هناك. أما شعره فقد كان شيئا مختلفا. كان ذلك الشعر مزيجا من عصور مختلفة. كانت تقنيته تمزج بين الأزمنة المتباعدة كما لو أنها تقع في الوقت نفسه. كما أن المشاهد المتلاحقة لا تنتمي إلى مكان بعينه. في ذلك الشعر كان المعدان وهم سكان الأهوار العراقية يتلمسون طريقهم في أروقة قصور الإمبراطورية الروسية كما لو كانوا من بناتها. لقد تخطى حسب في شعره عقدتي المكان والزمان فكان شعره شبيها بمحاولات فرجيينا وولف في الرواية. ألهمه التداعي الحر أن يكون ابن لحظة الكتابة. كان من الصعب تقليده لذلك كان نسيانه مطلوبا.

المنسي كما يرغب

أبو نؤاس وهي كنيته كان قد قضى الجزء الأكبر من حياته مشرفا لغويا في إذاعة بغداد. هو العمل الوحيد الذي مارسه بعد عودته من روسيا. كانت له زاويته التي لا يقترب منها أحد في نادي اتحاد الأدباء الذي يقع قريبا من ساحة الأندلس. كنا نراه وكان من الصعب اختراق عزلته. لم يكن متكبرا، غير أنه كان عابسا في استمرار. لا يحب الحديث في الشعر.

هل كان يحب الحديث في شيء آخر؟ كان الروائي أحمد خلف وهو صديقه مولعا في تقليد إشاراته الصامتة ومنها زم شفتيه ليشير إلى اعترافاته. وهي اعترافات قل ما تشير إلى رضاه.

كائن من طراز خاص كما هو شاعر من طراز خاص. حين ذهب إلى عمان بتأثير من الحصار الاقتصادي الذي ضيق الخناق على فكرة العيش عاش بين الفقراء لكن بأنفة ارستقراطية. نقل طقوسه نفسها إلى مغتربه.

كانت له زاويته التي لا يقترب منها أحد. وكان قدحه لا يتغير. هل أنقذته جائزة عويس من الفقر؟ كانت تلك الجائزة لفتة من السماء ولكن الشاعر الذي لا يرغب في تغيير مكانه عاد بعدها إلى بغداد. لم يكن لديه ما يفعله سوى أن يكتب رباعيات، لا يفهم أحد سرها. صار إيسوب أو ابن المقفع بطبعة معاصرة، بالنسبة إليه فقد انتهى فصل الشتاء الروسي ليبدأ فصل الصيف العراقي، انتهى الإيقاع لتبدأ الحكمة.

يحسب لمؤسسة عويس أنها أعادت اكتشاف حسب الشيخ جعفر. فالرجل لم يكن بحكم شخصيته مولعا بالقرّاء، لم تكن لديه رغبة في الشهرة التي كان يتجاوزها بتعففه وزهده وطريقة نظره السرية إلى الشعر وكانت فتوحاته في الشعر التي نشرت داخل العراق في كتب أنيقة لم تصل إلى القراء العرب

الحكيم بعد العاشق

صار حسب ومنذ كتابه “وجيء بالنبيين” شاعرا آخر. سنقرأ “في مثل حنو الزوبعة، أعمدة سمرقند، كران البور، الفراشة والعكاز، تواطؤا مع الزرقة، رباعيات العزلة الطيبة” فلا نرى “حسب” الذي غيّر مفهومنا عن الشعر.

صار حسب في كتبه المذكورة يقول كلاما مفهوما يعتقد أنه يستخرجه من طين الحكمة، غير أنه لم يكن إلا كلاما عاميا لا يمت إلى الشعر بصلة. لقد انطفأت شرارة الشعر، كانت حياته الروسية هي موقد شعره، وما لم يُكتشف منه سيبقى.

شاعر الكائنات النهرية والحشائش والأعشاب التي لا تنمو إلا في العراق كانت مخيلته قد انغلقت على حياته الروسية التي ما إن وهبت كل ما لديها حتى بدا العالم مجردا من اللذة.

لقد كتب حسب بعد ذلك شعرا يابسا. هل تمكن منه اليأس؟ كان أكثر جنوبيي العراق شغفا بحياة لم يعشها إلا السومريون، وهم أجداده.

يضعنا شعره في قلب زهرتهم الخيالية. غير أن حياته العراقية كانت فارغة من الإلهام. كان المشرف اللغوي يذهب من وظيفته إلى زاويته في نادي اتحاد الأدباء ليقضي الليل بين أصدقاء قليلين كان قد خبر أصواتهم. أكان لزاما عليه أن يكتب قصائد تعبر عن ضجره؟

لقد أغفل نقاد الشعر العرب حسب الشيخ جعفر ولكن قبل ذلك كان قرّاء الشعر قد أغفلوا قراءة شعره. كما أرى فإن عصر حسب الشيخ لم يبدأ بعد. كأنه يمشي على هواء وثير، وصفه علي جعفر العلاق وهو الوصف الذي يليق به كائنا يترك صفاته وراءه لتشير إليه.

حسب لمن يعرفه لا يفكر بمستقبله. كان لديه ماضي حياته وقد سجله شعرا، أما ماضي شعره فإنه لا يهتم به كثيرا. صار ذلك الماضي ملكا للتأريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً