اراء و أفكـار

لماذا بعد عقد من مقاومة الانهيار… ينقسم العراق على نفسه؟

د. بشير موسى نافع*

تعرض العراق لعاصفة هوجاء من الغزو الأجنبي في 2003، لم توقع دماراً في بنيته التحتية وجيشه وحسب، بل وفي كيانه الوطني ودولته أيضاً. وجد الغزاة حلفاء لهم بين العراقيين، سيما من التنظيمات الشيعية المعارضة في الخارج.

التي كان إخفاقها في إسقاط نظام صدام حسين في عقد التسعينات قد جعلها أكثر طائفية في تصورها لنفسها وللعراق ومستقبله. ولأن القوى الغربية كانت وفرت منذ بداية التسعينات حماية خاصة للمنطقة الكردية في الشمال، لم تجد إدارة الاحتلال صعوبة تذكر في إعادة تصنيف العراقيين، من مواطنيين متساوين في حقوق المواطنة وواجباتها إلى شيعة وسنة وأكراد. خلال الشهور الأولى من الاحتلال، توافقت إدارة الاحتلال مع الشخصيات والتنظيمات والأحزاب المتعاونة معها على وضع أولى لبنات الدولة العراقية الجديدة: مجلس الحكم، على أساس طائفي وإثني، وأخذت إدارة الاحتلال في تسليم مقاليد عراق ما بعد الغزو والاحتلال للسياسيين الشيعة. والمدهش أن القوى والشخصيات السياسية الشيعية، حتى بعد أن منحت سيطرة شبه كاملة على الدولة الجديدة، عملت على أن يستبطن الدستور العراقي الجديد انقسام البلاد الطائفي والإثني، وأن تمنح للكتل الطائفية والإثنية حق تشكيل أقاليم فيدرالية أو كونفدرالية.

لم يمر على العراقيين سنوات أكثر قسوة من سنوات الاحتلال. فما إن اندلعت المقاومة العراقية لقوات الاحتلال حتى اصطفت القوى والشخصيات التي أيدت الغزو وتحالفت مع إدارة الاحتلال ضد المقاومة ومراكز احتضانها الشعبية في المحافظات والمدن ذات الأغلبية السنية. وسرعان ما تحول انقسام العراقيين حول الغزو والاحتلال إلى حرب أهلية طائفية، بالغة الدموية والانحطاط، وشاع قتل العراقيين على أساس من مناطق سكنهم أو أسمائهم. لا يعرف أحد حتى اليوم عدد من قتلوا على يد قوات الاحتلال والميليشيات الطائفية خلال سنوات المقاومة والحرب الأهلية، ولكن ما يعرفه الجميع أن ملايين هجروا داخل العراق وخارجه، وأن بغداد وعدة مدن وعشرات القرى، في جنوب العراق على الخصوص، تعرضت بالفعل لعمليات تطهير طائفية غير مسبوقة في تاريخ البلاد.
بدا للحظات، سيما في سنوات اشتعال الصراع الأهلي، بين 2005 – 2008، أن الكيان العراقي في طريقه للانهيار. عزز الأكراد في المحافظات الشمالية الثلاث من استقلالهم عن بغداد، مرة بحكم الأمر الواقع، ومرة بحكم الدستور والقانون؛ بل وأخذوا في نشر قوات البيشمركة في مناطق تواجد الأكراد خارج حدود المحافظات الثلاث؛ بينما أطاحت المحاصصة الطائفية والإثنية للدولة الجديدة وموجات الصراع الأهلي في العراق العربي بما تبقى من اللحمة الوطنية. لكل غزو واحتلال غربي في التاريخ الحديث أساطيره، التي حاول بها تسويغ الغزو والاحتلال، أو السياسات التي تبنتها إدارات الاحتلال. وكما روج الغزاة البريطانيون الأوائل في الحرب العالمية الأولى لمقولة الاستبداد العثماني، ووعدوا العراقيين بالحرية والعدل، روج حلفاء غزو 2003 لمقولة الأغلبية الشيعية، وسيطرة السنة على العراق الحديث، وأن طوابير المدرعات الأمريكية والبريطانية لم تأت لفرض سيطرة أجنبية، بل لبناء عراق ديمقراطي، حر، وعادل. وهكذا، اعتبرت المحاصصة الطائفية والإثنية، التي منحت السياسيين الشيعة موقعاً مهيمناً على الدولة، سياسة رد مظالم تاريخية، ووصفت المقاومة العراقية للاحتلال بأنها مجرد تعبير بعثي أوعربي – سني عن فقدان الامتيازات والتحكم في العراق ودولته. ولم يكن غريباً، بالرغم من أن التصور الفيدرالي للدولة كان من صنع الممثلين الشيعة في لجنة كتابة الدستور، أن يتوقع الجميع أن يسارع السنة العرب إلى المطالبة بنوع من الاستقلال، سواء بتقسيم العراق أو فدرلته. ولكن ذلك لم يحدث.
ارتفعت أصوات سياسيين سنة، أغلبهم من حلفاء إدارة الاحتلال، الذين خابت توقعاتهم بالحصول على الحصة التي توقعوها من السلطة والثروة، بالدعوة إلى تشكيل إقليم سني، تماماً كما ارتفعت أصوات نظراء لهم في البصرة والناصرية. ولكن الأغلبية السنية الساحقة، وبالرغم من حجم الآلام والضحايا، بما في ذلك جماعات المقاومة، والقوى السياسية المعارضة للاحتلال، ظلت على الولاء للعراق الموحد ومعارضتها للدستور التقسيمي والدولة الجديدة، ليس فقط لنظام المحاصصة والتهميش المستبطن، ولكن أيضاً لنظام الأقاليم والفيدرالية. في تفسير هذا الموقف، قال البعض أن تصميم السنة على بقاء العراق موحداً، وتحت حكم مركزي، يعكس رغبتهم في العودة للاستفراد بحكم العراق. ولكن الحقيقة أن فرضية وجود سيطرة أو استفراد سني في العراق الحديث، عراق ما بعد الحرب الأولى، كانت خاطئة من أساسها، ليس فقط لأن العراق لم يحكم مطلقاً منذ 1920 على أساس طائفي، ولكن أيضاً لأن حكومات العراق المتعاقبة منذ العشرينات جعلت من انضواء الشيعة العرب في جسم الدولة الحديثة أولى أولوياتها.
وحتى في ظل دولة ما بعد الغزو والاحتلال، لم يتردد السنة العرب عن دعم توجهات وحدة العراق وأمنه. عندما تولى المالكي الحكم للمرة الأولى في 2006، بالرغم من أن رئاسته للحكم تمت بتوافق أمريكي – إيراني، لم يتردد السنة العرب، شعباً وسياسييين، في دعم رئيس الحكومة عندما أبدى عزماً أولياً للقضاء على الميليشيات والجماعات الإرهابية وأظهر عزماً على الحفاظ على وحدة البلاد. وكانت العشائر السنية وعناصر تنظيمات المقاومة هي التي لعبت الدور الرئيسي، باسم الصحوات، على أية حال، في القضاء على الجماعات الإرهابية في محافظات الأغلبية السنية. ولكن، وبعد أن عزز المالكي موقعه في رئاسة الحكومة، أظهر منذ نهاية 2008 وبداية 2009 حقيقة توجهاته وتوجهات القوى التي أيدت رئاسته للحكومة. جاء المالكي من خلفية حزبية طائفية، واستند في حكمه إلى أغلبية التحالف الشيعي، وإلى تأييد كل من إيران ورجال الدين الشيعة في النجف. وفي تجاهل فادح لما هو العراق وتاريخه، وما إن بدأت البلاد في التمتع باستقرار نسبي وتراجع في معدلات العنف، شرع رئيس الحكومة في اتباع سياسة حكم طائفية بحتة.
أحكم المالكي سيطرته على أجهزة الجيش والاستخبارات، بل وأسس جيشاً خاصاً يتبع مكتبه مباشرة. كان الجيش الجديد أصلاً قد تشكل من أغلبية شيعية ساحقة، سواء في عداد الجنود أو الضباط؛ ولكن سنوات المالكي شهدت استبعاداً شبه كامل للضباط السنة من مواقع القيادة العليا في الفرق وأركان القوات البرية والجوية. ولم يختلف الوضع كثيراً في مؤسسات الدولة والوزارات النافذة التي قادها وزراء شيعة، مثل وزارة النفط، حيث بدأ السنة في الاختفاء من هذه المؤسسات والوزارات تدريجياً. أجريت تغييرات جذرية على مناهج التعليم المدرسي، صبغت هذه المناهج بالصبغة الطائفية، ووظف قانون اجتثاث البعث الكريه لاستبعاد مئات الأكاديميين السنة من مختلف الجامعات. وفي معظم الحالات تقريباً، سواء في مؤسسات الدولة المدنية أو العسكرية، أو في الساحة السياسية، لم يفعل قانون الاجتثاث إلا لتقويض وجود السنة العرب. أما نظراؤهم الشيعة، فقد تم التغاضي كلية عن ماضيهم البعثي، بالرغم من أنهم شكلوا أغلبية كوادر الحزب وعضويته. وما إن اندلعت الثورات العربية، ووصلت رياح الثورة إلى الجارة سوريا، لم يعد الهدف إحكام السيطرة الطائفية على أداة الدولة ومقدرات البلاد وحسب، بل واستبعاد السياسيين السنة، الشركاء في العملية السياسية، أو كسر شوكتهم وإسكاتهم. أطاح المالكي بنائب الرئيس، طارق الهاشمي، بعد أن داهمت القوات الأمنية الموالية لرئيس الحكومة منزله وحاصرت مكتبه، موجهاً له تهمة دعم الإرهاب؛ وهمش نائب رئيس الحكومة صالح المطلق نهائياً؛ ثم قرر المالكي أن يطيح بوزير المالية رافع العيساوي. وكانت هذه، كما هو معروف، قشة نهاية 2012، التي قصمت ظهر البعير، وأطلقت حركة الاحتجاج الواسعة في محافظات الأغلبية السنية.
تداعيات سياسة التهميش والاستبعاد، أطلقت حركة الاحتجاج الواسعة في بداية 2013؛ وبالرغم من مطالب الحركة ذات السقف المنخفض، رفض المالكي الاستجابة أو مراجعة سياسته. كان التحالف الشيعي عندها قد انهار عملياً، وحملت القوى السياسية الشيعية، التي شاركت من قبل في مشروعه الطائفي، رئيس الحكومة وحزبه مسؤولية انقسام العراق المتفاقم.
كان مناخ 2008 الوطني ما دفع السنة إلى مواجهة الجماعات الإرهابية وإضعافها؛ ولكن سنوات ست طويلة من الحكم الطائفي لم تطلق موجة جديدة من العنف والإرهاب وحسب، بل وأدت إلى سيطرة داعش على ما يقارب من نصف مساحة العراق. فهل يعي الطائفيون الدرس؟ هل أدركوا أن الطائفية لا تهمش وتستبعد الآخرين وحسب، بل وتطيح بوجود البلاد ووحدة الشعب أيضاً؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً