“أحلام كارتون” العراقية تفضح الافكار الزائفة وتنتصر للافكار التنويرية
عبدالامير المجر
بعد العام 2003 وقع الفن الدرامي والسينمائي العراقي، على وجه الخصوص، تحت سطوة الحدث الذي افرز تجاذبات سياسية ذات طابع جهوي حاد، وفي المجمل لم يستطع هذا المشغل الفني من انضاج رؤية مستقلة، على مستوى معالجته الاحداث التي يتناولها، تؤكد خروجه من دائرة التأثير المشار اليها، لكن المسرح ظل بشكل عام بعيدا عن هذه التجاذبات، واستطاع اكثر من عمل ان يؤكد انتماءه الى قضايا الشعب، بعيدا عن التدليس السياسي والتوظيف والاستهداف المغرض.
والعمل الذي نحن بصدد تناوله في هذه السطور، يأتي في هذا السياق، اذ كنا الاثنين 6/1/2014 على موعد مع واحدة من اروع تجليات المسرح العراقي حيث عرضت مسرحية “احلام كارتون” على خشبة المسرح الوطني، لكاتبها الدكتور كريم شغيدل ومخرجها كاظم النصار.
المسرحية انشغلت بهموم الراهن العراقي، وانفتحت على ما هو اوسع، وهي تتصدى للأزمة الثقافية التي أنتجت واقعا سياسيا مأزوما، طبع الواقع الاجتماعي وشوّه صورته، وادخل الانسان في مأزق اخلاقي، ستطرحه المسرحية بطريقة فنية مبهرة، اجترح لها الكاتب والمخرج، مكانا مفترضا ومشبعا بالرمزية، اذ تبدا بسفرة على متن طائرة، كان ينبغي ان تحمل اربع شخصيات، ثلاثة رجال وامراة، تم اختيارهم بعناية وقصدية ذكية للغاية، حيث كان احدهم بخلفية ماركسية، والاخر بخلفية قومية، والثالث بخلفية اسلامية، فيما كانت المراة، مثقلة بحمولة متداخلة، سيملأها الكاتب والمخرج باسقاطات مختلفة، هي نضح نشاط الثلاثي السابق، ومكمل لرؤيته المتعارضة في معالجة مشاكل الواقع، الذي يحاول هذا الرباعي الهرب منه بالهجرة او السفر، بعد ان يتخلى الجميع عن قناعاتهم الفكرية تحت ضغط التداعيات التي عاشها العراق، وغيره، من دول المنطقة بفعل الاحداث التي حصلت، وقد تم ذلك بطريقة فنية مدهشة، تمثلت في باب الصعود للطائرة التي ستقلهم، اذ يلقي كل واحد منهم بحمولته الفكرية القديمة، على امل التمتع بحياة جديدة.
ستغدو الطائرة نفسها، الوطن ومكانا للكشف، ستحتدم بداخله الاحداث التي اخذت تتصاعد بطريقة تراجيدية اختلطت بكوميديا سوداء معبرة، استوقفت الجمهور اكثر من مرة للتصفيق الحار، بعد ان تتكشف اسباب الازمة التي يعيشها الوطن، والتي هي في حقيقتها ازمة ثقافية، افرزت واقعا سياسيا مأزوما، أنتج كل اشكال الخراب، حيث يكتشف المسافرون المفترضون، ان الطائرة تحمل عبوة ناسفة، وانهم باتوا امام مصير مشترك، وان العبوات الناسفة التي طاردتهم في الارض هاهي تلاحقهم وهم في السماء! او هكذا تخيلوا، بعد ان انغمسوا في ذواتهم ليعبر كل منهم، عن مكنوناته الثقافية، وهذه لم تخل من زيف وادعاء، كان هو في الحقيقة وراء الذي حصل، وان هروبهم او خروجهم من اجل الخلاص، لا يعدو كونه محاولة عبثية كشفت زيف الانتماء للفكر وعجزهم عن تكريس قناعة جمعية تساعد على تغيير واقع، قرروا اخيرا الهرب منه، بعد ان صنعته اياديهم، وان عليهم ان يدركوا هذه الحقيقة المرة!
لقد كف الماركسي وهو يهم بالسفر عن ماركسيته، متبرما من كل المقولات التي كان يتبناها، ساخرا من تاريخه، ومتطلعا الى مرحلة جديدة في حياته، خالية من تلك الافكار، وفي عالم مختلف، والامر كذلك مع زميليه، والفتاة، بعد ان القوا، كما اشرنا في بداية العمل بحمولاتهم الفكرية، في سلة نفايات عند مدخل الطائرة! لينتصروا لذواتهم المهزومة، علّهم يجدون عزاء لانفسهم في الخارج، فالداخل المفخَّخ والمثقل بالرعب، تركوه وراءهم، او هكذا توهموا، لكنهم وجدوا ان الطائرة التي تقلهم باتت هي ايضا مفخخة، لتبدا رحلة البوح الموجعة بعد ان يتألق الممثلون، علاوي حسين وفاضل عباس وسنان العزاوي وآلاء نجم واسعد مشاي، في تجسيد ادوارهم، ويملأوا المسرح بكفاءة استحقوا لأجلها تحية الجمهور الذي وقف ليصفق لهم طويلا في نهاية العرض.
لقد كانت مقولة العمل واضحة، وهي ان لا خلاص للشعب الا بمشروع وطني وانساني يتجاوز الحساسية العقائدية التي ألقت بظلال كثيفة على الواقع، وان دوامة الانتقام والانتقام المتبادل، التي اشارت اليها المسرحية، ستفرغ البلاد من ناسها وتعمق ازمتها الانسانية والاجتماعية، وهو ما سيدركه الجميع، ويدركون ايضا ان الطائرة لم تقلع لاسباب فنية! وان الرحلة تأجلت، في اشارة ذكية الى ان الجدل العقيم والصراع جعل الحياة متوقفة من دون ان يعلموا بذلك، ويلاحظ ان الرمزية هنا مزدوجة ومشحونة .. محاولة للهرب من واقع بات لا يطاق، يجعل من ابطال العمل الذين يعكسون عمقهم الثقافي والاجتماعي، تواقين لحياة اخرى، ثم يكونون في طائرة، ويكتشفون ان الهرب لا يحقق الهدف ولا ينتج واقعا سليما -خاليا من اسباب التذمر والعيش النكد، فهي لم تكن مفخّخة الا بافكارهم او بالاصح في تطبيق هذه الافكار في الواقع، والتي اخذت بعدا تصادميا انتج كل تلك الماسي، ثم يكتشفوا، او يكتشف المشاهد ان الازمة كانت في الاساس، ثقافية، وان الحل يكمن في تحرير الذات، ليس من الفكر مهما اختلف، بل في التعاطي معه، وعندما يكون عبئا على حياة الناس، حين يكون وسيلة لتحقيق تطلعات شخصية يدفع ثمنها الناس، بعد ان تتموضع وتأخذ بعدا سياسيا قاهرا يدفع الى التفكير بالهجرة والهرب والحلول العبثية.
المسرحية انتصرت للانسان كقيمة عليا، وللحرية كمثال ينبغي ان يكون مبدأ وعقيدة متجددة وليست جامدة في حياة الثائر والمناضل، وعليه ان لا يجزع او يصاب بالنكوص، تحت مؤثرات ومغريات السلطة او غيرها، وهي ايضا اكدت على مبدأ الحوار بين مختلف الافكار، وليس تصادمها، لان الحقيقة لا يملكها احد، بل هي نسبية تحاول الافكار والعقائد الاقتراب منها او اجتراح السبل اليها وعدم اتخاذها، العقائد طبعا، وسيلة للوصول الى السلطة والتطلعات غير المشروعة، فالمسافرون او المهاجرون، وكما تفصح المسرحية في النهاية هم ليسوا اولئك الساسة او المناضلين (الهاربين) بل ضحاياهم الذين هم انعكاس لصراع هؤلاء، وانه ليس امامهم سوى التصالح مع الواقع وصولا الى مجتمع متصالح ومتسامح كي تتحقق فيه العدالة الاجتماعية وتزدهر قيم العيش المشترك.
مسرحية “احلام كارتون” فضحت الافكار الزائفة وانتصرت للافكار التنويرية، وللانسان الذي يبحث عن خلاصه داخل الوطن وليس خارجه، وانتصرت للمدنية والتحضر وادانت الظلام والتخلف بطريقة بعيدة عن التشنج والشعاراتية، ومن خلال ولوج اعماق الانسان وسبر خلجاته، التي تجلت في هذا العمل الفني المتميز.