اراء و أفكـار

وحدة إقليم كردستان

بهروز الجاف*

تسمى البقعة الجغرافية، ذات الأغلبية الكردية، التي تضم المحافظات العراقية الثلاث، أربيل والسليمانية ودهوك، بالإضافة الى بعض المناطق من كركوك وديالى ونينوى، (إقليم كردستان العراق)، حسب ما جاء في المادة (53/ أ) من (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية) لعام 2004.

أصبح إقليم كردستان جزءاً من الدولة العراقية الحديثة (تأسست في عام 1921) في عام 1925 حين ضُمت ولاية الموصل اليها بقرار من عصبة الأمم. كانت ولاية الموصل تضم محافظات نينوى وأربيل والسليمانية وكركوك الحالية، بالإضافة إلى تكريت وطوز خورماتو من محافظة صلاح الدين، وكفري من محافظة ديالى، في حين لم تكن دهوك وتوابعها محافظة، بل كانت جزءاً من الموصل.

كانت أغلبية السكان في ولاية الموصل من الكرد، ولكن مدينة الموصل، عاصمة الولاية، كانت ذات أغلبية عربية. ولعدم منح الكرد حقهم في إدارة مناطقهم، في ذلك الوقت، أسوة بما اكتسبته الأقوام الأخرى من إقامة دولها المستقلة، بدأت ثورات كردية، قومية، صاحبت نشاطاتها وتعقيدات أهدافها الوطنية، والقومية، مشكلة تحديد الحدود الجغرافية لما سميت في حينه، كردستان الجنوبية أو كردستان العراق. وبدا واضحا، من خلال مسارات الثورة الكردية، أن المقصود بكردستان العراق هي المناطق ذات الأغلبية الكردية في العراق، وهذا يعني عدم التمسك بولاية الموصل، بل استبعاد مدينة الموصل، من أهداف النضال، باستثناء دهوك وعقرة وسنجار والشيخان وتوابعها، وإدخال مدن خانقين ومندلي وبدرة، وتوابعها، في تلك الأهداف (هذا ما جاءت به أدبيات اتفاقية آذار عام 1970 بين الحركة الكردية والحكومة العراقية). وهذا المسار يدل، بما لا يقبل الشك، على أن الحدود التي رسمتها الحركة الكردية لنفسها كانت على أساس إثني، وليس جغرافياً، وهو ما زاد من تعقيد قضية الحدود بسبب التغيير الديموغرافي، الممنهج من الحكومات العراقية المتعاقبة، والطبيعي المتأثر بالفرْق في معدلات الولادات والوفيات، والهجرة، والهجرة المضادة، في المناطق ذات الأغلبية الكردية. برزت قضية (ترسيم) حدود الإقليم الكردستاني بعد عام 2003، في المادة (58) من (قانون إدارة الدولة)، ووريثتها المادة (140) من الدستور العراقي لعام 2005. أما غاية إدارة الإقليم، فتكمن في تشريع قانون، اتحادي، يرسم حدود الإقليم، على أساس قومي يعود إلى ما قبل التغيير الديموغرافي، أو ترسيمها، على نفس الأساس، بفقرة تضاف إلى الدستور العراقي، بعد تعديله. وتعتمد قدرة الإقليم، على تحقيق هدفه، على عوامل داخلية تتمثل في مدى رسوخ وحدته، وقوة إدارته، بالإضافة الى السند الدولي، والإقليمي، المطلوب.

تجاوزت الثورة الكردية، على مدى القرن العشرين، الكثير من التوجهات الاجتماعية، والثقافية، المتناقضة، وتداعياتها السياسية، ضمن الحدود الجغرافية لمطالب الثورة، وكبحتها قربانا للهدف الأسمى، وهو حق تقرير المصير. وبعد إقرار حق الإقليم، المتمثل بالبقعة الجغرافية التي ورثتها الثورة الكردية بعد انتفاضة عام 1991، في إدارتها ذاتيا، ودعمها لاحقا بالظهير الدستوري، عام 2005، وتوحيد الإدارتين الكرديتين عام 2007، طفت على السطح أهداف جديدة، للأحزاب الكردستانية، تمثلت بغايات سلطوية، جعلت من أهداف الثورة، السابقة، قربانا لمغريات السلطة، فيما جعلت من التناقضات الاجتماعية، والثقافية، والاختلافات اللهجوية، الكامنة، أرضا خصبة لزرع الفرقة في المجتمع الكردستاني، ضمن الحدود الحالية للإقليم، وهو ما يهدد تماسك وحدة الإقليم.

تعود جذور الخطر الكامن الذي يهدد وحدة الإقليم الى مرحلة تشكيل الدولة العراقية الحديثة، حين بدأت حركات التمرد الثورية بقيادة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية، والشيخ احمد البارزاني في قضاء الزيبار ضمن منطقة بهدينان، إذ يتضمن إقليم كردستان منطقتين لهجويتين سائدتين، هما البهدينانية (الكرمانجية) وتشمل محافظة دهوك وقضاء الزيبار (قضاء ميركة سور الذي يضم منطقة بارزان) من محافظة أربيل، و اللهجة السورانية التي يتحدث بها ابناء السليمانية والبقية الباقية من أربيل، كما توجد للبهدينانية امتدادات في محافظة نينوى، وللسورانية امتدادات في كركوك وديالى، فيما تتميز خانقين بلهجتها الكلهرية، ومندلي وبدرة بلهجتهما الفيلية، والاخيرتان قريبتان من السورانية. ويستشف من أدبيات الثورة الصادرة في كل من دهوك والسليمانية وجود صراع على ريادة الثورة بين السليمانية ومنطقة بارزان تجسد على ارض الواقع، لاول مرة، في الانشقاق، والصراع العسكري، بين جناح المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني (معظم قياديه من السليمانية) وجناح رئيس الحزب الملا مصطفى البارزاني (معظم مريدية من بهدينان) في عام 1964.

يشتد الشعور القومي للكرد، والمتطرف في بعض الاحيان، المتمثل بالثورات والتمردات والنتاجات الثقافية والادبية، في المناطق ذات الأغلبية الكردية الخالصة، كمدينة السليمانية، لانتفاء الحرج من المساس بالشعور القومي للأقوام الأخرى، كالتركمان والعرب. فمع تشكيل الدولة العراقية، عام 1921، بعث المندوب السامي البريطاني ببرقية الى وزير الدولة لشؤون المستعمرات، يقترح فيها تقسيم المنطقة الكردية، ضمن الدولة العراقية، الى اربع إدارات منفصلة (يُنظَر: القضية الكردية في العشرينات، عزيز الحاج)، وهو التقسيم الذي يمثل، تقريبا، منطقتي نفوذ الشيخين محمود الحفيد واحمد البارزاني، واللتين امتدتا تأريخيا لتكونا نفوذاً لجناحي الحزب الديمقرطي الكردستاني الى ان حل محلهيما نفوذا الحزبين الحاكمين الحاليين في إقليم كردستان، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، الذين يعدان، في حقيقة الأمر، وريثين لمنطقتي نفوذ إمارتي بابان (السليمانية واطراف كركوك) وسوران (أربيل واطراف الموصل) في أواسط القرن التاسع عشر. وقد ثبّتت الحكومة العراقية أخيرا حدود المنطقتين، من خلال التدخل العسكري لصالح الحزب الديمقراطي الكردستاني، في 31 آب من عام 1996، واخراج قوات، وادارة، الاتحاد الوطني الكردستاني من أربيل ومن ثم استقرار الموقف، جغرافيا، في الحرب الأهلية، على حساب وحدة الإقليم التي انفصلت الى إدارتين يديرهما الحزبان، في حدود ادارتي امارتي بابان وسوران التاريخيتين.

في عام 2009، حصل تخلخل في جانب من المعادلة السياسية، في السليمانية، إذ نشأت حركة التغيير، على حساب الاتحاد الوطني الكردستاني، وكان من نتائج تقدم الحركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في الحادي والعشرين من أيلول الماضي، في السليمانية، أن برز صراع على النفوذ، والسلطة، يشوبه نَفَس مناطقي واضح، ألهبته حركة التغيير، تجسدت اولى مظاهره في المطالبة باستقالة المحافظ وبانفصال السليمانية بإدارة لامركزية، او اية صيغة اخرى تنتهي الى الإدارة الذاتية، بالإضافة الى تصريح تحريضي لمرشح حركة التغيير لمنصب محافظ السليمانية، هفال ابو بكر، حين ذكر بأن معظم إدارات السليمانية يديرها أربيليون وخانقينيون، وهو ما حدا برئيس الإقليم، مسعود البارزاني، الى التحذير من التقسيم حين صرح قائلا: “إن وحدة الإقليم خط احمر”.

لا شك في أن استثمار النفط في الإقليم، ومن ثم تحول السلطة الى كنز اقتصادي، ودخول العامل الإقليمي على الخط، ساعد في التأثير سلبا في وحدة الصف الكردستاني، في داخل الإقليم وخارجه، تمثل بالصراع المناطقي على استثمار النفط، والمداهنة على المناطق المتنازع عليها، وخصوصا كركوك، لصالح تركيا، والتأثير السلبي في نضال الكرد الشماليين في تركيا، والغربيين في سوريا، وميل واضح للكرد الفيليين، في بغداد، إلى الولاء الطائفي على حساب الولاء القومي.

وأكدت نتائج انتخابات الإقليم البرلمانية الاخيرة، ايضا، التوجه نحو التخندق المناطقي حين فشلت حركة التغيير في كسب صوت الناخب البهديناني (محافظة دهوك)، وبقاء المحافظة حكرا على الحزب الديمقراطي الكردستاني بسبب خصوصيتها العشائرية واللهجوية، وهو ما دعا القيادي في حركة التغيير، عدنان عثمان، الى انهاء محاولات حركته في تشكيل تنظيم حزبي لها في دهوك وأمله في تشكيل حزب محلي آخر هناك، يناظر حركة التغيير في السليمانية. ولا يخفى ان الحركة تحاول جاهدة تحقيق الهدف الأساسي، الكامن، لها، وهو الانقلاب على الاتحاد الوطني واحتلال محله، بشكل كامل، في المعادلة السياسية في الإقليم، من خلال اغلبيتها في السليمانية وتكتيكاتها في الدخول في حكومة ذات قاعدة عريضة تكون فيها اللاعب الثاني الاقوى بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني.

يشي الواقع السياسي الحالي في الإقليم ببروز خطر يتهدد وحدة الإقليم من خلال تحول حكومته الى إدارات لامركزية تتمثل في محافظات الإقليم الثلاث، أو حتى تشظي المحافظات الى اجزاء أصغر اثر بروز نَفَس مناطقي، ومديني، أكثر ضيقا، وخصوصا وان حكومة الإقليم كانت قد أقدمت على تشكيل ادارات محلية، لها صلاحيات محافظة، في كل من كرميان وحلبجة ورانية وسوران، ووعودها، ايضا، بتشكيلها لاحقا في كل من عقرة وزاخو، علاوة على مطالبة الإقليم الرسمية للحكومة الاتحادية بتشكيل محافظة حلبجة. وستكمن أبعاد هذا الخطر مستقبلا حين تصبح وحدة الإقليم هدفا لصراع سياسي قد يتسبب في انكماش الأهداف المركزية لحكومة الإقليم والأحزاب السياسية على السواء، ليس اقلها انحسار المطالبة بالحاق المناطق المتنازع عليها بالإقليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً