اراء و أفكـار

إصلاح الدولة العراقية..مستقبل وحدة العراق في إقليم كركوك

تمرّ الذكرى السنوية التسعون لاكتشاف النفط في العراق سنة ١٩٢٧، حيث تدفق الذهب الأسود من حقل بابا كركر، في فترة احتدم فيها النزاع على مدينة كركوك بين القوات الاتحادية العراقية وقوات البيشمركة بعد الخلاف على شرعية استفتاء اقليم كردستان للانفصال من العراق.
كان اكتشاف ثروة النفط في شمال البلاد وجنوبه نذير شؤم للعراق، فقد استأثرت به الشركات الاحتكارية لعقود من الزمن حتّى نهاية العهد الملكي، لتحتكرها فيما بعد، أنظمة عسكرية ودكتاتورية وشمولية وصولاً الى سقوط نظام حزب البعث عام ٢٠٠٣ على يد قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. خلال تلك العقود، استخدم النفط كسلاح ضد جميع شرائح الشعب العراقي وأداة لإفساد اقتصاد الدولة وممول لحروب عبثية ضد دول الجوار. لم تكن تلك الانظمة ممثلاً حقيقياً للشعب، فلم تكن يوماً ما خيار العراقيين في عقود غابت عنها الديمقراطية حتى عام ٢٠٠٥، حيث تم الاستفتاء على دستور الدولة الاتحادية وانتخاب أول حكومة بصورة ديمقراطية فيما بعد.
لكن قيادات الكتل السياسية التي دوّنت مفاهيم الفيدرالية في الدستور، اختلفت عليها بعد تشكيل أو حكومة اتحادية، وقررت الركون الى الاتفاقيات السياسية متجاوزة النظام الاتحادي، فكانت النتيجة أن كرست الحكومات الاتحادية مبدأ المركزية في ادارة الدولة، أما اقليم كردستان فشرع بالتعامل مع العراق بوصفه دولة شبه منفصلة مع التمتع بحصة من واردات النفط الاتحادية، فضلاً عن مدخولات الإقليم من النفط والمصادر الأخرى.
المفارقة في كل هذا هو أن المحافظات المنتجة للنفط التي موّلت الموازنات الاتحادية لم تتمتع بالحد الأدنى من واردات انتاجها النفطي. سوف لن اتحدث عن البصرة المظلومة التي موّلت أكثر من ٨٠٪ من موازنات الدولة، وما زالت أغنى مدينة مهملة يعيش أهلها حالة فقر قلّ نظيرها، فلهذه مقالة خاصة. حديثي هنا عن كركوك، هذه المدينة التي يراها الجميع عراقاً مصغراً لِما تحتضنه من تنوع مجتمعي ضمّ جميع اطياف الشعب العراقي، وجمعت بين الإرث الحضاري والثروات الطبيعية، فكانت بحق مدينة التعايش، لكن حظها من الخيرات، كالبصرة الحلوب، كان لغيرها.
اجتماعياً، يتكون المجتمع الكركوكي من أكثرية كردية تصل نسبتم الى ٤٥٪ وعرب بنسبة ٣٥٪ وتركمان بنسبة ١٥٪ والكلدو آشوريين ومكونات أخرى نسبتهم ٥٪. لكن هذه التقديرات الحكومية، على عدم دقتها بسبب غياب الاحصاء، إلا أنها تعطي صورة عن الموزائيك الاجتماعي لهذه المدينة.
اقتصادياً، يعتبر النفط أهم ثروة مادية تمتلكها هذه المدينة، فحقول كركوك الرئيسة هي القباب الثلاث: بابا كركر و آفانا وخورمالة (التي تمتد الى الموصل)، بالإضافة الى حقول باي حسن وجمبور وخباز والدبس. حيث تصل احتياطيات النفط في هذه المدينة بحدود ١٠ مليارات برميل تجاري قابل للاستخراج، أما مجمل انتاج الحقول المذكورة أعلاه فيصل الى ٥٥٥ الف برميل يومياً، حسب تقديرات شهر أيلول ٢٠١٧، أي أنها تشكل ٧٠٪ من كامل انتاج حقول شمال العراق، بما فيها حقول النفط داخل اقليم كردستان التي يصل انتاجها مع كركوك الى ٧٩٠ الف برميل نفط يومياً. علماً بأن في الإمكان تطوير حقول كركوك ليصل انتاجها الى ٨٠٠ الف برميل يومياً، وهذا سيوفر لكركوك حصة أكبر من البترو دولار المقرّة قانوناً، فضلاً عن حصتها من الموازنة الاتحادية.
قبل عام ونصف كتبت مقالاً نشرته لي مجلة الشؤون الخارجية الاميركية، اقترحت فيها أن تتحول محافظة كركوك الى إقليم ضمن الدولة الاتحادية، يتمتع بكامل مميزات النظام الفيدرالي الذي ضمن اللا مركزية وتقاسم السلطات في ادارة الدولة. أهم ميزة في تحول كركوك من محافظة الى اقليم، أنها ستأخذ قرارها بنفسها استناداً الى مبدأ المواطنة، وستحد من طموحات الانقسام المجتمعي والسياسي على هويتها، وانهاء الخلاف على إدارة مواردها الطبيعية التي اصبحت محل خلاف بين بغداد وأربيل منذ عام ٢٠١٤. يجب أن لا ينتهي مستقبل كركوك كالبصرة التي لم تر من خيراتها شيئاً بسبب تمسك بغداد بالنظام المحاصصاتي والمركزي في الحكم، كما يجب أن لا تُستخدم حقول كركوك كبوليصة تأمين لدفع ديون اقليم كردستان التي لا تعني أهل كركوك بشيء. لذا، من الأولى أن من يقرر نظام الحكم المحلي وإدارة الملف الاقتصادي في كركوك هم أهل كركوك، بكردهم وعربهم وتركمانهم، بمسلميهم ومسيحييهم وباقي مكوناتهم. يجب أن لا تُملى التوافقات السياسية على كركوك، بل على أهل كركوك أن يصوتوا لمصلحتهم ويجتهدوا في تطوير مدينتهم من خلال اعتماد الدستور الاتحادي الذي ضمن لهم حق اقامة اقليم يتمتع بصلاحيات دستورية ستنهض بشأنهم الاقتصادي الى مستوى مزدهر لا يقل عن أيّ إمارة خليجية غنية، إن لم تكن أغنى بفضل إرثها التأريخي والثقافي، فضلاً عن وفرة الموارد الطبيعية.
سيكون إقليم كركوك ضمانة لوحدة العراق وحافزاً للمنافسة بين المحافظات والاقاليم لتطوير الملفات الاقتصادية محلياً، ضمن اطار الدستور، للنهوض بدولة اتحادية ناجحة. إن كانت بغداد العاصمة الإدارية للعراق، والبصرة العاصمة الاقتصادية، فكركوك هي قدس العراق ومثال التنوع والتعايش السلمي الذي يجب أن يحتذى به في جميع محافظات العراق وأقاليمه.
* أكاديمي وزميل في جامعة كولومبيا، نيويورك
د. لؤي الخطيب *

مقالات ذات صلة