اراء و أفكـار

ميونيخ بين زمنين: تحوّلات النضال والجهاد

موسى برهومة

بين حادثتين شهدتهما المدينة الألمانية ميونيخ في العامين 1972 و2016، ثمة مياهٌ كثيرة جرت تحت جسور ما يُعرف بـ «النضال السياسي» أو «الجهاد الديني». لم يتغيّر الزمن فحسب، بل تبدّلت قيم «الجهاد». ففي الأولى كان الغايات جامعة ونبيلة وتحظى بتعاطف واسع حول العالم، وكانت أيضاً أخلاقية إلى حدّ بعيد، بينما أضحى القتل في الثانية هو الغاية والمبتغى، القتل بأي وسيلة وبلا تمييز، ومن دون رحمة أو رأفة.
ففي عملية ميونيخ التي نفّذها فدائيون فلسطينيون ضد أعضاء الفريق الأولمبي الإسرائيلي في الدورة الرياضية الصيفية في أيلول (سبتمبر) 1972، كان الشعار الأساسي للعملية الإفراج عن المعتقلين والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، من خلال مبادلة اللاعبين الإسرائيليين بعد احتجازهم بالأسرى.
ولم يكن الجانب الفلسطيني يرغب في النهاية المأسوية التي حاقت بالعملية، بعد الإخلال بشروط التفاوض ونقضها، ما أسفر عن مقتل 11 رياضياً إسرائيلياً وضابط شرطة ألماني وخمسة من الفدائيين الثمانية، حيث اعتقل ثلاثة منهم وحُرّروا في ما بعد، إثر اختطاف طائرة تعود لشركة لوفتهانزا الألمانية. وكان القائد الفلسطيني الشهيد صلاح خلف (أبو إياد) كثير التوصية، وشديد التأكيد على أفراد الخلية الفدائية بتجنّب إراقة الدماء، و «الظهور بأننا لسنا مجرمين، وإنما طُلاب حرية، وعدم إراقة الدماء إلا في حالة الدفاع عن النفس، وكذلك المعاملة الطيبة للأسرى طالما التزموا الهدوء»، وفق ما يُروى في مذكرات عدة من بينها «فلسطيني بلا هُوية» لصلاح خلف.
وعلى رغم أنّ حادثة ميونيخ الأخيرة جرت في المكان الأول نفسه قرب الملعب الأولمبي وفي مركز أولمبيا للتسوق، إلا أنها كانت بلا شعار ومن دون أي مطالب سياسية، وفي معزل عن أي روادع أخلاقية، فقد كان المهاجم يطلق النّار في كل اتجاه، غير مكترث بطفل أو امرأة أو شيخ أو بتجمّع مدنيين، حتى أنّ موظفاً في مركز التسوّق قال، كما أوردت الأنباء، إن «إطلاق النار حدث بسرعة كما في الأفلام»، ما يذكّر بحادثة «نيس» بفرنسا حيث سحقت شاحنة الإرهابي المحتفلين لمسافة كيلومترين، مخلّفة عشرات الضحايا الأبرياء الذين جاؤوا للاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي.
ويمتدح القيادي العسكري في «داعش» أبو بكر الناجي في كتابه «إدارة التوحش»، تنوّع الأساليب الإجرامية في مباغتة الخصوم، ففي اعتقاده أنّ ذلك يُربك حسابات الأجهزة الأمنية والجيوش النظامية، ويشلّ توقعاتهم، وهو ما كان أفصح عنه من قبل القيادي البارز في التنظيم الإرهابي طه صبحي فلاحة الشهير بـ «أبو محمد العدناني»، حينما دعا «الذئاب المنفردة»: «إذا لم تنجح في إلقاء قنبلة، أو فشلت في فتح النار على مشرك من الفرنسيين أو الأميركيين، يمكنك طعنه بسكين أو ضربه بالحجر أو سحقه بسيارة».
وكثيرة هي الشواهد التي أقدم عليها هذا التنظيم ومن قبله «القاعدة» تؤكّد خلو الشعار «الجهادي» من مفردة الحق والخيريّة والرحمة، ويمارس هذا التوحّش سائر التنظيمات حتى تلك الموصوفة بـ «المعتدلة»، وما قطعُ عنق الفتى ذي الإثني عشر عاماً في حلب من جانب عناصر في «حركة نور الدين الزنكي» سوى دليل ساطع على ذلك.
حقّقت بعض العمليات الفدائية حضوراً ساطعاً للقضية الفلسطينية في المحافل الشعبية والعالمية، وأسفرت عن نتائج كبيرة تمثلت في الإفراج عن معتقلين وأسرى، وفي إيقاف مخططات سياسية صهيونية، وأجبرت قوى دولية على الامتثال لمطالب وأجندات لم يكن السياسي قادراً على بلورتها. وكذا فعلت قوى التحرّر في العالم، على رغم أنّ غالبيتها كانت علمانية التوجّه.
أما في زمن «الجهاد الإسلاموي»، فقد تراجع الميراث الإنساني في المواجهات والحروب، فترك أولئك الظلاميون وصية أبي بكر الصديق لجيش أسامة بن زيد إلى بلاد الشام، وتمسّكوا بأبشع ما في التاريخ من توحّش وهمجيّة، في حين لا يزال فقهاء الإرهاب يسرفون في الحديث عن «الحور العين» اللواتي ينتظرن المجرمين المسربلين بالدم والعار!

نقلا عن “الحياة اللندنية”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً