اراء و أفكـار

العرب كضحية للإرهاب مرتين: من شرم الشيخ إلى بيروت فباريس؟

طلال سلمان

وبعدما غطى الإرهاب بالشعار الإسلامى دنيا العرب بدماء أهلها تمدد إلى أوروبا بعاصمتها المتوهجة فنا وثقافة وحبا للحياة، باريس، بعد يوم واحد من ضربته الثالثة فى الضاحية الجنوبية، خلال سنة.
«داعش» وحش يعيش على دماء ضحاياه وبها…
فى البدء كان «يفضل» العرب والمسلمين،.. وهكذا اتخذ من «الرقة» السورية، عاصمة ومركز انطلاق لعملياته، وهى المدينة التى بناها وأعطاها اسمها الخليفة العباسى هارون الرشيد، على ضفاف نهر الفرات الذى تقع منابعه فى تركيا، ثم يندفع مخترقا سوريا حتى مدينة دير الزور، حيث ينعطف شرقا فى الأرض العراقية ليلاقى قبيل البصرة نهر دجلة فيشكلان معا «شط العرب» ليكون المصب فى الخليج العربى.
.. ثم تمدد فى بيداء الأنبار وصولا إلى الموصل، العاصمة الثانية للعراق، حيث أعلن قائده نفسه خليفة باسم «ابى بكر البغدادى»، قبل أن يواصل زحفه فى اتجاه بغداد محتلا نصف مساحة العراق تقريبا… ومن ثم أكمل سيطرته على أجزاء واسعة من البادية السورية (حيث لا حدود تقريبا بين سوريا والعراق) وصولا إلى تدمر، عاصمة مملكة زنوبيا، بقلعتها وبقايا المدينة الرومانية التى تقدم صورة جميلة عن عهدها السابق على المسيحية والإسلام معا.
على امتداد سنة ونصف السنة من عمر هذه «الخلافة» سفح داعش دماء المئات من ضحاياه، عربا وكردا وازديين وصابئة وسريانا وتركمانا وشركسا، أكثريتهم الساحقين من المسلمين… دون أن يشغله بناء دولة خلافته بالجماجم عن تقديم استعراضات مرعبة عبر تصوير المذابح الجماعية لقوافل من الناس البسطاء (العمال المصريين فى ليبيا وقد اختارهم من الأقباط تغذية لنار الفتنة) أو طوابير ممن وقع فى أيديه من الرعايا الأجانب فى العراق، فضلا عن «أسره» مئات الفتيات من الإزديين «من اجل تمتيع المجاهدين»، واطفالا من مختلف الأعراق باشر تجنيدهم وتدريبهم على السلاح إعدادا لأجيال جديدة من «المجاهدين».

***
فى هذه الأثناء اختار أن يوجه ضربتين قاتلتين فى الضاحية الجنوبية من بيروت، مستهدفا جمهور «حزب الله» الذى قصد بعض مقاتليه إلى سوريا لمساندة جيشها فى مواجهة عشرات التنظيمات الإرهابية التى كان بعضها قد وصل إلى بلدة عرسال اللبنانية الواقعة عند بعض سفوح السلسلة الشرقية التى تشكل خط حدود بين لبنان وسوريا، واتخذ من جرودها، بل ومن البلدة نفسها «قاعدة خلفية» لعملياته العسكرية فى سوريا و«الأمنية» بمعنى «التفجيرية» فى لبنان، وتحديدا فى المناطق الحاضنة لجمهور مناصريه، وأبرزها الضاحية الجنوبية من بيروت، كانت آخرها عشية المذبحة التى ارتكبها فى «عاصمة النور»، كما يسميها الفرنسيون: باريس.
ولقد جاءت هاتان الضربتان فى كل من باريس والضاحية الجنوبية لبيروت لتتكاملا فى الوحشية وانعدام الإنسانية مع العملية الإجرامية غير المسبوقة التى ارتكبها تنظيم داعش ضد ركاب الطائرة الروسية المائتين والعشرين من الرجال والنساء والأطفال الذين قصدوا منتجع شرم الشيخ، طلبا للراحة والاستجمام، ففجرها فى الجو وتناثرت جثث الضحايا فوق رمال سيناء، غير بعيد عن «العريش».
هكذا اكد داعش، مرة أخرى، انه وان يقصد إيذاء العرب والمسلمين، أساسا، فإنه لا يكتفى بضحاياه منهم بل يضيف إليهم الأوروبيين من أهل شرق أوروبا كما الروس كما من غربها فى عاصمة فرنسا باريس..
وكان ضروريا أن تنتبه أوروبا إلى هذا التنظيم الإرهابى «الأممى» فى حركته وفى ضحاياه، وان كان رأسه «عربيا» وشعاره «إسلاميا»… خصوصا وان العديد من الدول العربية منخرطة فى حروب فيها وعليها، مثل سوريا والعراق واليمن الذى يتعرض لغزو عسكرى سعودى مدمر بلا مبررات مقنعة…
لقد صار «العربى المسلم»، عامة، رمزا للإرهاب الدولى من موقع «الزعيم – الخليفة» الآمر بالقتل أو « الداعية» جامع المناصرين تحت لواء الإيمان .
حيثما حل «العربى» يحل الخوف… ومن البديهى أن تتفاقم العنصرية فى مواجهة «العربى»، ويٌنظر إليه على أنه سفاح مدمر للإنسانية، قاتل الأطفال، مقتحم الملاعب الرياضية وجمهورها بالقنابل، مفجر النوادى الليلية، مغتال الفرح والموسيقى.
***
لقد نجح «الإرهابيون» من «الإسلاميين» فى دمغ الدين الحنيف ومعه حملة رسالته من «العرب» بمعاداة الإنسانية… إذ ليس أسهل من تصوير شعوبهم جميعا بأنهم مجاميع من القتلة والسفاحين فى بلادهم كما فى البلاد البعيدة، يقتلون المسلمين كما يقتلون المؤمنين بأديان سماوية أخرى..
… لكن الإسرائيليين فى مأمن، سواء داخل «دولتهم» التى قامت بالقتل وعليه وطرد من يرفض الخروج من أرضه من أصحاب الأرض التى كان اسمها فلسطين، والتى سيبقى اسمها الذى يحمله أهلها فلسطين، ولو هجروا إلى خارج الأرض المحتلة لكى يقيم عليها الإسرائيليون «دولة يهود العالم».
إن التنظيم الإرهابى قاتل الأطفال والنساء والتاريخ والهوية قد استهدف مصر فى العديد من علمياته، قد تكون الأقسى والأبشع منها جريمة إسقاط الطائرة الروسية، لكنه قد تبنى، غير مرة، عمليات قتل وتدمير فى بعض أنحاء سيناء وجهات أخرى من مصر، وصولا إلى القاهرة حيث ضبط رجال الأمن واحدة من خلاياه التى كانت تخطط لعمليات إرهابية فى بعض أنحائها.
بل إن استهداف طائرة السواح الروس تكشف أن داعش لا يكتفى بقتل الناس، رجالا ونساء وأطفالا، وإنما يستهدف ايضا وأساسا ضرب الاقتصاد المصرى بضرب «السياحة» فى مصر، عاصمة ومنتجعات سياحية على البحر الأحمر وخليجه عند شرم الشيخ.
إنه إرهاب منظم بأهداف سياسية محددة: انه يستهدف «الدول» فى البلاد العربية تحديدا، وليس المواطنين أو ضيوفهم من السياح والزوار فحسب. انه يتقصد إيذاء هذه الدول فى سمعتها ورصيدها المعنوى، وفى أمنها، ثم وأساسا فى اقتصادها.
تكفى صورة طوابير السياح والقادمين للراحة والاستجمام وهم يصدعون لأوامر دولهم، فى غرب أوروبا وشرقها، فيغادرون المدن التى نالت سمعة دولية ممتازة فى السنوات الأخيرة، مذعورين، يجمعون أطفالهم ويهرعون إلى الطائرات التى أرسلت فى «قوافل الإنقاذ» من الخطر الذى يتهددهم إن هم بقوا فى هذه البقعة الخلابة فى جمالها وفى هدوئها وفى حسن استقبالها ضيوفها.

***
إن هذه العملية الإرهابية ومثيلاتها إنما تستهدف مصر فى سمعتها كبلاد تميزت بشعارها المرفوع فوق مطاراتها «ادخلوها بسلام آمنين»، وفى رصيد منتجعاتها الحديثة والممتازة طقسا وخدمة للقادمين بطلب الراحة واكتشاف مكامن الجمال الأخاذ فى تلك الرقعة من البحر الأحمر المتميزة بالمرجان وبأصناف متميزة من الأسماك النادرة فى أشكالها وألوانها والتى يندر وجودها فى سواحل مختلف أنحاء العالم.
إن عملية شرم الشيخ تستعدى العالم على مصر فى احد أهم مصادر الدخل فيها، وتفسد علاقاتها مع الدول الصديقة، فاختيار الطائرة الروسية لم يكن عبثا، بل انه يؤشر على الهدف المطلوب انجازه بضربة قاتلة لعلاقات مصر بالعالم الخارجى، شرقا وغربا، والعرب ضمنا، والتمكين لمحاولات عزلها وحصارها.
إن بين النتائج المباشرة للمذابح التى يرتكبها داعش، حيثما مكنته قدراته من الوصول، أن يعود العرب إلى مربع التخلف والجهل ومعاداة العصر وتشويه صورة انتمائهم القومى وإيمانهم الدينى.
وهكذا نشهد مؤتمرات دولية ولقاءات بين أقطاب العالم، غربا وشرقا، تعقد لمناقشة الإرهاب، فى غياب العرب، وان حضر بعضهم طاردته شبهة التهم حتى تثبت براءته، التى يصعب عليه إثباتها وهو الضحية وهدف السفاحين من الدواعش.
إن دول العرب تتهاوى، وتنفتح أبواب جهنم عليهم فى أرضهم، وها هى نار جهنم تطاردهم فى أربع رياح الأرض.. ومقابل الإدانة الدولية التى تطاردهم حيث حلوا، إضافة إلى بلادهم ذاتها، تجرى تبرئة قتلتهم الفعليين وفى المقدمة منهم، قبل الدواعش وبعدها، إسرائيل التى تطارد فتية فلسطين ونسائها والرجال برصاص القتل.
إن الضحية الأولى لتنظيم «داعش» هم العرب بعنوان فلسطين، وبعدها يمكن احتساب العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وتونس… الخ، فضلا عن مصر التى استهدفت فى كرامتها وفى سمعتها كما فى رصيدها الذى تعبر عنه الآية الكريمة: أدخلوها آمنين..
***
ومع ذلك فإن العرب غائبون بل مغيبون عن دولهم، بحاضرها ومستقبلها، يتخاصمون إلى حد الحرب، ويهادنون أعداءهم إلى حد الاستسلام، ثم يواصلون تظلمهم وتشكيهم من الدهر الذى قسا عليهم فجعلهم بحكم الرعايا لأنظمة القهر.
والتاريخ لا يرحم… خصوصا لمن يخرج نفسه منه وعليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً