اراء و أفكـار

عن اليمن و«العاصفة».. ووحدة السلاح

عبد الله زغيب
في نهاية العام 1993، كان المشير عبدالله السلال، أول رئيس لليمن، أكثر العارفين بالطبيعة التي سارت على أرضيتها المغامرة المقبلة لعدن، منذ إعلان الوحدة الاندماجية غير الفدرالية بين اليمنين الجنوبي والشمالي في 22 أيار 1990، عقب تلاشي عناصر قوة المعسكر الشرقي. فالرجل السبعيني وقتها ترأس اجتماعاً لـ «منظمة مناضلي الثورة اليمنية» في قلب عاصمة الجنوب، بعد حدوث مناوشات عسكرية بين «جنوبيين» و«شماليين» في مناطق «الأطراف» الفاصلة بين حدود الدولتين المندمجتين. والمجتمعون بقيادته أكدوا أن أساس التوتر يرجع الى عدم توحيد القوات المسلحة بشكل حقيقي، وهو أمر أدى لتأليف لجنة من «هيئة الرئاسة» لإعادة دمج القوات المسلحة، والتي فشلت بطبيعة الحال وأدى فشلها مضافاً إلى أسباب أخرى إلى اندلاع الحرب الأهلية اليمنية العام 1994.
ببساطة، البلد الموحّد تفكّك، أو بات على طريق التفكك. وبمعزل عن أي «منجزات» مقبلة لمجمل طاولات الحوار، يبقى الأساس أن اليمن بنسخته الجيوسياسية الحالية لم يعُد قابلاً للاستمرار، ولن تبقى صنعاء عاصمة لعدن، طالما أن البناء القائم حالياً يعتمد على سلّة متكاملة من الأخطاء التاريخية التي ارتكبتها قيادة الحرب والاندماج، ثم الحرب، ثم الوحدة المبنية على هزيمة النصف الآخر، وصولاً إلى فوضى «ثورة الشباب» العام 2011 والتجاوزات التي رسختها المبادرة الخليجية، ثم الانقلاب الحوثي في أيلول 2014 على «نظام المبادرة» وما تلاه من حرب سعودية شاملة. فاليمن مهما بلغت شدّة صراعاته وتعقيداتها، وآلامها المصاحبة التي بنت أساساً متيناً من الانسلاخ المجتمعي، يبقى بلداً خاضعاً لقوانين السياسة وعلمها، وكذلك لبديهيات بـناء واستمرارية الدولة المركزية. و«التمرين العملي» الذي قدّمته الإدارة الأميركية في العراق، شكّل النموذج الأبرز في العالم لكيفية تحويل بلد قوي بلداً ضعيفاً، وتحويل دولة غنية تمتلك ثلاثية الأرض الخصبة والطاقة الأحفورية والكوادر القادرة على إدارة الثروات، دولة كاملة أو شبه كاملة الفشل. والطريقة كانت سلسة وبسيطة: تفتيت الجيش العراقي.
فشل الوحدة القسرية
في اليمن، لم يكن التفتيتُ مشكلة قائمة. بل كمنت العقدة في الدمج، حيث فشلت المؤسسة السياسية الحاكمة في إنتاج جسم عسكري موحّد ومتناسق، لشدة «الضغينة الشرقية» التي تملّكت عقلية مَن ادعى «الشعبوية» في الشمال و «الاشتراكية» في الجنوب. هكذا، عاش البلد قبل «حرب الانفصال» ثلاثة أعوام من الوحدة في ظل حكم ميليشيات «شرعية ونظامية». فعلى سبيل المثال، كانت الألوية 20 و30 و5 مدرع تتبع القيادة الجنوبية، فيما تسيطر صنعاء على «لواء العمالقة» و «الثاني مدرع» التابع لـ «الصاعقة»، وكذلك وجود أسراب من الطائرات المقاتلة تحت إمرة ميليشيا «الحزب الاشتراكي اليمني» ومثلها لـ «المؤتمر» شمالاً، إضافة إلى عشرات التشكيلات المناطقية والقبلية التي تتنوّع ولاءاتها جنوباً وشمالاً.
لم يتغيّر الكثير في عدن منذ ذلك الوقت. فالمدينة ومعها المحافظات الجنوبية لم تشهد عملية بطيئة لتذويبها في مجتمع يمني موحد. بل بقي العمل السياسي هناك مقتصراً على طبقتين، واحدة شريكة في حكم البلاد منذ وقوفها إلى جانب الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح في حربه مع آخر رؤساء الجنوب علي سالم البيض، ومن أبرز رموز هذه الطبقة الرئيس اليمني الحالي عبد ربه منصور هادي، وأخرى ترفض العملية السياسية وتعتبر أن الوحدة انتهت مع فشل «وثيقة العهد والاتفاق» في 18 كانون الثاني 1994، التي أعلنت في الأردن بين أقطاب الخلاف اليمني ما قبل الحرب الأهلية. وهذه الطبقة تتكوّن من تشكيلات الحراك الجنوبي وتنظيمات أخرى تدعو في أدبياتها لانفصال الجنوب اليمني عن صنعاء. وعلى منوال العمل السياسي هذا كان العمل العسكري، حيث شكلت القوات المسلحة اليمنية صورة طبق الأصل لطبيعة النخبة الحاكمة وتشعّباتها.
لم يتغيّر واقع ما بعد المبادرة الخليجية التي أجهضت «ثورة الشباب» المصاحبة لـ «الربيع العربي» عن الماضي. فقبل انطلاق عملية «عاصفة الحزم» كان الجيش اليمني يتوزّع على سبع مناطق عسكرية، حيث تخضع المنطقة العسكرية الأولى لعبد ربه منصور هادي ومقرّ قيادتها في مدينة سيئون، وكذلك المنطقة الثانية ومقرّ قيادتها في مدينة المكلا والثالثة ومقر قيادتها مأرب، وتمتد إلى شبوة الجنوبية والجوف في الشمال الشرقي، وعلى هذا المنوال تتبع المنطقة العسكرية الرابعة للرئيس اليمني خاصة أنها تشكل حامية عدن وجوارها. في حين يسيطر الرئيس علي عبدالله صالح على المنطقة العسكرية الخامسة ومقر قيادتها في مدينة الحديدة، والمنطقة العسكرية السادسة ومقر قيادتها في عمران، إضافة إلى المنطقة العسكرية السابعة وسط البلاد، وفيها معسكرات لقوات الحرس الجمهوري الموالي لصالح.
على هذه الشاكلة عمل الجيش اليمني في صراعاته كافة، وبالتحديد حروبه مع «القاعدة» والحوثيين، ثم الحرب الحالية التي انطلقت مع سيطرة «انصار الله» على البلاد في أيلول 2014، وتحوّل المسألة حرباً خارجية على اليمن بقيادة السعودية. كما أن الصورة الأكثر قرباً تحمل تعقيدات ومحاصصة في البنيان العسكري اليمني، أكثر عمقاً من أي نموذج آخر في العالم. وهذا كان عاملاً أساسياً استغلّته جماعة «أنصار الله» لتحييد خصومها وتعطيل أي محاولة لخلق مواجهة بينها وبين الجيش اليمني. كما عملت في الأسابيع السابقة لبداية «عاصفة الحزم» على إخلاء غالبية المعسكرات البعيدة في المحافظات الجنوبية من أي أسلحة استراتيجية أو نوعية قد تقع في أيدي «القاعدة» أو المقبل من الخصوم في الصراع الذي بدت ملامحُه جليّة في ذلك الوقت.
الجيش اليمني كلمة السر
الجيش اليمني كان وربما ما زال جيشاً قوياً بالمقياس الإقليمي. لكنه، على صورة اليمن، لم يتمكّن من التصالح مع الدور الذي يُفترض بالقوات المسلحة أن تلعبه. بل بقي رهين القسمة الدائمة، وبقي خاضعاً لكل التبدّلات والأهواء المصاحبة لها. ومنذ توقيع وثيقة التفاهم بعد الحوار الوطني نهاية العام 1993، بدت الصورة المقبلة أكثر وضوحاً، حيث توزّع الموقّعون ما بين ممثل عن «الحزب الاشتراكي» وكان رئيس الوزراء أبو بكر العطاس، والقيادي في «المؤتمر الشعبي العام» عبد الكريم الإرياني، والقيادي في «التجمّع اليمني للإصلاح» عبد الوهاب الآنسي. وهكذا كان جيش ما بعد الحرب الأهلية، مع فارق استبدال «الحزب الاشتراكي» بعبد ربه منصور هادي بعد وقوفه إلى جانب صنعاء في حربها مع عدن.
لم يكن الجيش اليمني ضعيفاً في أي يوم من الأيام بالمقياس الإقليمي. لكن تشرذم تشكيلاته حتى على مستوى العقيدة القتالية ساهم في تعزيز الزخم المصاحب لإنشاء ميليشيات وتنظيمات خارجة عن مفهوم الدولة المركزية، وهي في الوقت ذاته شكلت جزءاً أساسياً في عمل تكوينات يمنية في المنظومة الحاكمة. فالبعض استثمر «أنصار الشريعة» لتطويع مناطق «خارجة عن الدولة» كأبين، والبعض الآخر استثمر ميليشيات جنوبية نهاية تسعينيات القرن الماضي للضغط على الطبقة السياسية المعارضة للرئيس صالح، فيما شكل الواقع الحالي الاستثمار الأكبر في تاريخ اليمن للميليشيات غير النظامية، فكان الحوثيون بعدّتهم وعتادهم رافعة عسكرية وسياسية وشعبية لتشريع علي عبد الله صالح مجدداً، و«تطهيره» من «مآسي» الماضي اليمني، بينما كانت «القاعدة» و«الحراك الجنوبي» واللجان الشعبية التابعة لعبدربه منصور هادي رافعة مماثلة للحرب السعودية على صنعاء.
لن تنجح السعودية في إعادة عقارب الساعة من خلال حربها على اليمن، ولن ينجح الحوثي وحليفه علي عبد الله صالح في الحفاظ على مكتسبات السيطرة على البلاد في أيلول من العام الماضي. ولن ينجح الجنوبيون في الخروج موحّدين من المعركة القائمة وببلد يعتمد على حدود ما قبل الاندماج. ولن تنجح طاولة مستديرة كانت أم مجزأة وموزعة على عدد من العواصم. النجاح لا يمر إلا عبر طريق البندقية الموحّدة. فالبلد الأول في إنتاج العصبيات القبلية، والمجتمع الأكثر تسلحاً في العالم، والبنية الأكثر استعداداً لاحتضان الأزمات، كلها عناصر تثبت أن لا إمكانية للحفاظ على اليمن إلا من خلال تذويب كياناته العسكرية كافة في سلة «شرعية» و«نظامية» متكاملة. وبعد تخطّي الرياض وصعدة وعدن وحتى طهران، لاختبارات التحمّل الجارية بالحديد والنار، وعندما يدرك الجميع أن الحل يمر بالحوار بعد انتهاء حفلة عض الأصابع في الخارج، وقطع الأوردة في الداخل، عندها فقط يدرك المقتتلون أن وحدة الجيش في اليمن، وربما فقط في اليمن، تعني وحدة الدولة.

نقلا عن “السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً