اراء و أفكـار

الهروب الكبير للقيادة العامة للقوات المسلحة العراقي

د. مثنى عبدالله

سموها ما شئتم، الهروب الكبير أو الفرار الأضخم، العار الأكبر أو الفضيحة المجلجلة، وإذا كنتم تودون المداهنة وممارسة اللعب بالكلمات وتغيير معاني الألفاظ فسموها نكسة، كي يكون وقعها على زعامات الجهل أخف وطأة.
المهم أن الخيبة الكبرى في الأنبار قد حدثت، وطبيعة الخيبات الاستراتيجية أنها تبقى أكبر من كل الوصف. تذكروا جيدا عهد القائد العام للقوات المسلحة لشعبه، بأن الانبار لن تسقط، وطالعوا تصريحات وزير دفاعه قبل أيام معدودة من الهروب الكبير حين قال «إنني لن أكون إلا صادقا وأمينا مع العراقيين ومحافظا على أموالهم، وأود أن اقول لهم أن هناك من يتربص بكم ويتاجر بدمائكم، فتوخوا الحذر من المعلومات التي يروج لها أقزام الارهاب». هذه التصريحات الفنتازية جاءت للرد على بعض الأخبار، التي تحدثت عن قيام تنظيم الدولة بمحاصرة العديد من الجنود والضباط في منطقة الثرثار وقتلهم، والتي على أثرها انطلقت حملة إعلامية كبيرة قادها القائد العام، الهدف منها تعزيز الثقة بقدرات الجيش العراقي، والتحذير من المساس بمعنوياته، وضرورة مراعاة وضعه النفسي.
وقد حاولنا أن نصدق عهد القائد العام، ونؤمن بأمانة وزير دفاعه معنا، ومحافظته على أموالنا من المتربصين والمتاجرين بنا كما قال، وانصعنا الى نصيحته فتوخينا الحذر من معلومات أقزام الإرهاب، وعلى الرغم من إيماننا المطلق بأن القائد العام ووزير دفاعه وكافة شركاء العملية السياسية، هم من عتاة الجهلة والأميين في حقول السياسة والعلوم العسكرية والأمنية والاقتصاد، لكننا قررنا أن لا نمس مشاعر الجيش في مقالاتنا، وأن نكف عن القول إن جحافله هربت من الموصل أمام بضع مئات من المسلحين، ورددنا نغمة أن الموصل بيعت، كما هم يقولون ، كما قررنا أن نجامل الحكومة وعنتريات رئيس البرلمان، وأن نصفق لعمليات تحرير صلاح الدين، التي تمت بفعل التلاحم البطولي بين الشيعة والسنة في قوات الحشد، كما يريدون، على الرغم من المذابح والسرقات وحرق الدور وأماكن العــــبادة، وعدم السماح بعودة أهلها إلى مساكنهم حتى اليـــوم، لكن المفــاجأة الكبرى أننا رأينا صناديد هذا الجيش يهربون مرة اخرى في الانبار، ويتركون مرة أخرى أسلحتهم ومعداتهم وآلياتهم ودروعهم ودباباتهم في المعسكرات، هدية كبرى لعناصر التنظيم، بل أن الضباط نسوا أن لديهم بعض الجنود الموقوفين في سجون الوحدات العسكرية بقضايا انضباطية بسيطة، ولم يفتحوا لهم الأبواب كي يهربوا معهم، فكانوا فريسة سهلة لعناصر التنظيم، حتى الجرحى تركوهم في أماكنهم وفروا.
وها هي النغمة نفسها تعود مرة أخرى فقالوا إنه أنسحاب تكتيكي، ويقول مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان الأمريكية «لم تُطرد القوات العراقية من الرمادي بل خرجت بنفسها» بمعنى أنها تبرعت بأسلحتها ومواقعها الى تنظيم الدولة. وتحدثت مصادر أخرى عن أن قرار الهروب كان من قائد ميداني، خمّن أن الغطاء الجوي لن يتوفر لقطعاته للقتال بسبب عاصفة رملية، فحرص على سلامتهم وأعطاهم أمر الهروب. هنا لابد أن نتساءل أين الخبراء والمستشارون الامريكان والإيرانيين ومن حلف الناتو؟ أين غرفة التنسيق الاستخباراتي المشتركة العراقية الامريكية، والعراقية الايرانية، والعراقية الاردنية؟ ألم يقولوا أن التنظيم قد تراجع، وأنهم مجرد جرذان يختبئون في جحور الصحراء، وأن زعيمهم بات مشلولا، وأن نائبه أبو علاء العفري قد قتله القصف الامريكي؟ إذن لماذا لم يبق في الانبار خارج سيطرتهم سوى قاعدة عين الاسد، التي بات أسدها يزأر وحيدا من الخوف في الصحراء؟ ربما السؤال الأهم هو هل يستحق هذا اللاشيء أن يسمى جيشا؟ قد ينتقدنا ويشتمنا البعض حينما نصفه هكذا، لكن تذكروا جيدا كيف أن الجيش السابق كان سبب حله أنه ارتكب جرائم بحق العراقيين. هكذا قالت أحزاب الاسلام السياسي الشيعي والاحزاب الكردية، وبعض الزعامات السنية الذين كانوا في أحضان المخابرات الامريكية والبريطانية. فإذا كان الجيش السابق بكل تاريخه المُشرّف تم حله لذلك السبب، فماذا أنتم فاعلون بالجيش الحالي، الذي كان ومازال يمارس دور الشرطة المحلية في السيطرات بين المدن والاحياء والازقة، ويعاني من الفساد والطائفية وبيع الرُتب، ويفتقر الى أبسط قواعد الضبط العسكري، وعندما حصلت المواجهة هرب من ميدانه الذي هو في داخل المدن وليس على التخوم، أمام بضع مئات أو عشرات من المسلحين، مجرد مسلحين وليسوا جيشا غازيا؟ وإذا كان القائد العام السابق وأعوانه قد هربوا من دون حساب، فعلام القائد العام الحالي مارس الدور نفسه، وهو الذي قالوا إنه اتى كي يصلح ويغير؟ والجواب بسيط جدا، عندما تكون الاستراتيجية صحيحة، حتى لو كان التنفيذ فيه بعض الفشل على المستوى المرحلي وفق ظروفه الخاصة، فالنهاية تبقى دائما ناجحة، أما عندما تكون الاستراتيجية خاطئة، وهنالك بعض النجاحات المرحلية من وقت لآخر، فإن الفشل سيكون حتميا. النجاح الاستراتيجي يحتم الإمساك بكل عوامل النجاح، والقائد العام ليس بيده أي من هذه العوامل لأن اللاعبين في المشهد كثر، دوليين وأقليميين ومحليين، بعضهم يمسك السماء وهو وحده يحدد أيا من الاهداف يضرب أو لا يضرب، والاخر يدفع بمليشياته كي تأخذ موقع الريادة والصدارة على كل الاجهزة العسكرية، وآخرون يتزعمون الطوائف والاثنيات ويتشاركون في صنع القرار، لكن عليه هو ووزير دفاعه أن يعلما بأن القائد يسقط عندما تسقط هيبته، أي أن مصيره محدد في الاعمال العسكرية الحربية التي يخوضها. كما أن سعي البعض الى اتهام العشائر بأنها لم تتحمل مسؤولية الدفاع عن مناطقها، وهي التي تتحمل وزر هروب الجيش والشرطة، أنما هو محاولة فاشلة للتهرب من المسؤولية. فالدول الحديثة التي تحترم نفسها هي التي تبني منظومات الدفاع عن كياناتها بمؤسسات وطنية مركزية، وليس بعشائر وقبائل وحشود شعبية تتصرف كما تريد بعيدا عن سياسة الدولة.
إن المعضلة الكبرى في العراق هي أن السلطة مازالت تصر على المقــــاربة العسكرية، مستبعدة الحل السياسي تمـــاما من أجنــدتها، وقد يحسم الحل العسكري الوضـــع على الارض، لكنه سيكون مرحليا وهامشيا وكلفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية كلف كبرى، لان عدالة الدولة لا يمكن فرضها بالقوة على الاخرين، إنها عملية إقناع بممارسات فعلية عادلة تثبت لهم أنها تستحق الطاعة فيخضعون لها راغبين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً